مرّ عام كامل على تلك المجزرة. كان ذلك في 3 آب/أغسطس 2014، الساعة السادسة والنصف مساءً، كنت مع أمّي في زيارة لبيت عمّي. يقع بيت عمّي في شارع القوّتلي، في دوما في ريف دمشق الممتلئ بالناس والمحلات مقارنة بباقي المدينة. جلسنا في غرفة الضيوف المطلة على الشارع، كان معنا عمّي وزجته وولديه وعمّتي وجدتي التي فقدت نظرها.

نزل أبناء عمي إلى الشارع، وما كانت إلا لحظات حتى أومض ضوء رهيب في الغرفة تلاه صوت انفجار قوي.

غـارة. ألقت الطائرة صواريخها، وقعت جدّتي وأمّي، تكسّر الزجاج على رأس أختي الأقرب إلى النافذة. صرخت زوجة عمي تنادي على طفليها، اختفيا خلف غبار الصاروخ. أمّا عمتي فأصيبت بصدمة وتكسّرت أبواب الشقّة كلها من ضغط الإنفجار. ركضت إلى الشارع مع عمّي الذي نزل ليبحث عن ولديه، ركضت لأساهم في إسعاف الجرحى، كنت أعمل كمسعفة، وكانت سيارات الإسعاف بدأت تفد إلى مكان الإنفجار. وبمجرد وصولي إلى مدخل البناء رمت الطائرة صاروخها الآخر.غارتان لم يفصل بينهما إلا ربع ساعة فقط، وكأنّ الطيار المجرم بعد أن رمى صاروخه الأول، انتظر ليتجمّع الناس ورمى صاروخه الثاني.

ارتميت على الطريق، لم أعد أرى شيئاً لم أسمع إلّا صوت عمّي وهو يصرخ. حينها أدركت أنني ما زلت على قيد الحياة. التفتّ إلى عمي وجدت الدماء تسيل من قدمه، وبجانبه شاب كان يصرخ بعد أن سقطت عليه دراجته النارية، أثناء حدوث الغارة ارتمى إلى مدخل البناء. تفقدت جسدي فلم أجد أي جرح. بدأت أنادي الإسعاف،  ولكن عندما حدثت الغارة الثانية كانت شظايا الصاروخ وقعت على سيارة الإسعاف وفجرتها. استشهد كامل طاقمها الطبي، في ما بعد عرفت أنه من بين الطاقم كان هناك رضا، الفتى الصغير ذو الأربع عشر عاما المتطوع في الهلال الأحمر.

نساء ينزحن من منازلهم بعد قصف على حي الأنصاري في حلب. تصوير براء الحلبي

سمعت صوت زوجة عمي من البناء و هي تصرخ بحثاً عن ولديها.  تلك اللحظات اختلط بها الدم والنار والدخان والأشلاء والغبار والصراخ والتكبير. لحظات لا أستطيع أن أصفها بكلمات، فالكل يطلب المساعدة ولكن دون جدوى خوفاً من غارة ثالثة أثناء عملية الإسعاف. بعد ثلث ساعة انتشر الناس وبدأوا بمهمة إنقاذ الجرحى. هرعت إلى النقطة الطبية، وباشرت عملي. قمت بتخييط جروح عمي الذي لم يجد ولديه بعد.

كانت الساعة قد اقتربت من السابعة و النصف مساءً، والنقطة الإسعافية تعج بالمصابين. الشهداء تمّ ترحيلهم إلى المدافن مباشرة، فلا مجال للانتظار. زميلتي كانت معين مهمتي هي تقطيب الجروح السطحية. مهمتها هي تنظيف دماء المصابين. و لكن في ذلك اليوم كانت الإصابات أكبر من طاقة النقطة الإسعافية، وتحتاج إلى كادر طبي أكبر غير متوفر بسبب هروب أغلب الأطباء من المدينة.  صرخ لي الطبيب المسؤول و طلب مني أن أخيط جرحاً لرجل بالكاد استطاع أن يؤمن له سريراً يوضع عليه. قمنا بتنظيف الجرح لنكتشف أن الجرح ليس سطحياً. أخبرت الطبيب فصرخ في وجهي و طلب مني أن أباشر العمل، أعطاني بعض التعليمات استجمعت قواي و بدأت أخيط الجرح من الداخل، محاولة أن أطبق ما تعلمته وما شاهدته أثناء عملي بالإسعاف،  متجاوزة نقص المواد الأولية الذي نعاني منه و خاصة المادة المخدرة، وصراخ المصاب الذي حاول تثبيت نفسه لأنه يعلم العجز الطبي في الغوطة المحاصرة. و بعد أن أتممت عملية الخياطة ناديت الطبيب الذي لمعت عيناه في بحر الدماء الذي أغرق المكان. أثنى على عملي أحسست بالفخر والرضى عن نفسي. ناديت لعامل النقل الذي قام بنقل المصاب خارج النقطة، ولا أذكر بعدها عدد المصابين الذين قمت بإسعافهم.

أثناء تحرّكي بين الجرحى، وجدت شاباً غارقا بدمائه ينتظر دوره في الإسعاف. أحسست بأني أعرفه. اقتربت منه و طلبت من العمال نقله الى سرير الإسعاف، و بدأت بعملي لأكتشف أن هذا الشخص ابن عم أبي. سألته عن الذين أصيبوا معه، فأخبرني أنه  أصيب هو واستشهد أبوه. وهكذا حتى ساعة متأخرة من الليل وقعت على الأرض، لم أستطع الحراك. كنت في تلك اللحظة أخيط جراح طفل مصاب، و بسبب الإرهاق جرحت نفسي، واختلطت دمائي بدماء الطفل. انهارت قواي فتوقفت عن العمل، أعانني أحدهم على الخروج من المكان، وأعطاني كأساً من اللبن ليساعدني. جلست في غرفة الانتظار حيث فوجئت بابن عمي أسامة الذي كنا نبحث عنه في بداية الغارة. ذهبت إليه فأخبرني أنه أصيب بقدمه إصابة طفيفة عندما كان يلعب بالشارع مع أصدقائه، كان أخوه معه ولكنه لم يصب، وعندما أسعفوه كان معه، و لكن اصطحبه أحد الأشخاص الموجودين بالقرب من النقطة، لأن عدد المصابين كبير والمسؤولين أفرغوا كل النقطة ليقوموا بعملهم.

جلست معه حتى الساعة الواحدة فجراً، حيث انتهى الإسعاف وبدأت عملية التنظيف. وتم إحصاء الشهداء والجرحى في هذه الغارة فاستشهد كحصيلة أولية 27 شخصاً، وأصيب قرابة المئة شخص، بين المصابين حالات بتر أعضاء. وأدّت الغارة إلى تدمير بنائين بشكل كامل، وتضرّر عدد لا بأس فيه من الأبنية، وكان بين الشهداء طاقم طبي من الهلال الأحمر وتم تدمير سيارتهم الإسعافية.

مر عام وما زلت أستذكر أحداث تلك الغارة، التي تتكرر مع كل غارة لطائرات النظام على المدن السورية.

 

 

 

حنين عبد الرحمن، تركت دراستها في الطب بشري في سنتها الجامعية الثالثة في دمشق، لتذهب إلى الغوطة وتعمل فيها كمسعفة لمدة سنتين. عملت في العديد من النقاط الإسعافية والطبية. ومنذ شهرين اضطرت لترك الغوطة وعادت لدمشق.