على أمل العودة

من حي السكري في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

من حي السكري في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

عند الرابعة فجراً من يوم الإثنين 17 تشرين الأول/أكتوبر 2016، اتجهنا نحو بلدتي بعد غيابٍ طويل… كنا نسير على ضوء القمر، دون إنارة، كنّا نخشى من الطيران الروسي الذي يستهدف الأضواء المتحرّكة.

وصلنا إلى بلدتي بعد ساعة من المسير، وكنتُ فرحة في البداية لأني أتجول فيها لأول مرة حُرةً، لكن سرعان ما راحت الفرحة وحلَّ الحزن…. أرى بلدتي وقد خلت من سكانها. جميعهم تركوها ونزحوا إلى بلداتٍ مجاورة، والقلة التي بقيت، صارت تُقيم في الأقبية.

مرَّ وقت آذان الفجر، ولم نسمع الآذان، فمساجد البلدة هُدِمت… ولا أحد يُقيم الصلاة. أيُّ غصة هذه؟ أكملتُ طريقي والغصة تكاد تقتلني… لم أستطع أن أصرخ لأقول: لِمَ كل هذا؟

مضيتُ قدماً… ووصلتُ إلى الساحة حيثُ كانت تُباع الخضار… كانت تعجُّ بالناس من بلدتي والبلدات المجاورة… جميعهم كانوا يأتون للبيع والشراء. رحلت أصواتهم وخيام البيع… سكتت الحركة التي كانت لا تهدأ حتى حلول المساء. دُمّرت الساحة وكل الأبنية من حولها…

أأُكملُ مسيري أم أكتفي بهذا الكَم من الوجع؟ أكملتُ المسير علني أجد منزلاً يسقيني شربةَ ماء، كي أروي ظمئي… لكن لا يوجد. فحتى تمديدات مياه الشرب، دمّرها النظام وأعوانه… وبالأساس مياه بلدتي غير صالحة للشرب، لأنها كلسية. كيف يشرب مَن بقيَ في البلدة؟!

يا حسرتي ويا وجعي…

وأنا أتجول في الصباح، خرج الطيران الروسي ليكمل عملية الهدم والتهجير، بمساندة مدفعية من جبل زين العابدين… فأسرعتُ واختبأت في أحد الأقبية، تحت منزل هجره أهله، وبقيتُ فيه حتى الحادية عشر ظهراً.

وما إن انتهى الطيران من ضرباته، حتى خرجت…

رغبتي بأن أوثّق حال بلدتي، تضطرني  للمغامرة. مشيتُ وسط تصاعد الغبار، ووصلت إلى أكثر نقطة قتلت قلبي… إلى مدرستي! هنا كانت ذكريات طفولتي… كان المعلمون وكان زملائي، وأصواتنا تردد وراء المعلم… مدرسة خرّجت أجيالاً، دمروها بمقاعدها بجدرانها، بكل ما فيها! حالٌ تُبكي…

عند الواحدة ظهراً، خرجتُ من البلدة، وسلكتُ طريقاً آخراً للخروج، غير الذي دخلتُ منهُ. رأيتُ في حيٍ مواجهٍ لحواجز النظام، أنَّ بعض الأهالي ما زالوا في منازلهم، رحتُ إليهم وسألتهم: “ماذا تفعلون هنا، لِمَ لم تهربوا؟!”

أجابني رجلٌ مُسن: “كي نحمي بيوتنا من السرقة”.

هذا هو حال بعض مَن بقي، لأنهُ فنى عمره في بناء منزل، يبقى كي يحميه. رأيتُ النسوة تبكي خوفاً من القصف، سواء من الطائرات الروسية أو من مدفعيات جبل زين العابدين، أو ربما من الحواجز المشرفة على منازلهم…

رأيتُ الأطفال، وجوهُهم صفراء من الخوف والمرض… يأكلون وجبة واحدة فقط طوال اليوم، والوجبة صغيرة لا تُرضي معدتهم!

تحدّثت مع الرجل المسن وقلت له، أنهُ الأفضل لهم الخروج، فكيف يبقون كي يحموا منازلهم من السرقة، وقد تُقصف فوق رؤوسهم؟

لكنهُ رفَضَ…

وقالَ لي أن أحد أبنائه، يذهب كل ثلاثة أيام لتأمين الخبز من بلدة مجاورة، ويأتي…

هكذا يعيشون…

تركتهم مع صوت القصف، ورأيتُ الأطفال يرتعشون لأي صوت، خوفاً من الموت…

هذه كانت رحلتي عن حال بلدتي، التي دُمّرت بيوتها وساحاتها ومساجدها ومدارسها… غامرت وجلتُ فيها من الرابعة فجراً حتى الواحدة ظهراً… رحلة التسع ساعات كانت لأننا نُغامر كي نوثّق… كي نكتب.

خرجتُ منها، أملاً بالعودة ثانيةً، كي نبنيها بعيداً عن ظلم النظام.

نرجس الحموية (31 عاماً) من ريف حماه. ربة منزل، أرملة ولديها أربعة أولاد. شاركت بدورات نسيج وتمريض في أحد المراكز النسائية في ريف إدلب حيث تسكن حالياً.