عرف الموت ولم يمت!
عائلة فقدت منزلها بقصف طائرات النظام حي ضهرة عواد شرقي حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"وإذ بسيارة تتوقّت بمدخل بيتنا... وقامَ الشبّان بإنزال زوجي منها! في ذلك الوقت ظننتُ أنّ زوجي قد مات! وقد كانت لحظات صعبة جداً علينا، حيثُ بدأ أولادي بالبكاء وأنا لم أتمالك نفسي فبدأتُ بالبكاء أيضاً!"
توظف زوجي في شركة الكهرباء الحكومية التابعة للنظام في 27 كانون الثاني/يناير 2011. وبدخلٍ محدود بعضَ الشيء… وفي 15 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، أي بعد أقل من 9 أشهر جاء قرار فصله، بعدما أعلن تأييد للثورة وتوقف عن الذهاب إلى عمله.
حينها بدأت معاناتنا. كان زوجي من أوائل المؤيدين للثورة، فهو من الحاقدين على النظام الفاجر منذُ زمن، وذلك بسبب مجزرة مدينة حماه في العام 1980، أي في العام الذي ولِدَ فيه… وكان والده يحكي له عن جرائم النظام في تلك الأحداث، وبأنّهُ قد تعرَّضَ للسجن والضرب والإهانة…
وأمسى زوجي بلا عمل… ثمَّ عملَ في المجلس المحلي في مجال الكهرباء أيضاً، لكن من دون راتب… ومع ذلك كان ملتزماً بعمله!
كنتُ أطلب منه أن يطلب مقابلاً مالياً من الناس الذين يقدّم لهم خدماته في صيانة الكهرباء، إنما كانَ ردهُ لي:“أُقسمُ لكِ أنّ هناك بعض الأشخاص الذين أقصد منازلهم لصيانة الكهرباء، وأرى أنّ حالهم أفقر من حالنا بكثير… فكيفَ أطلبُ منهم المال؟!”
بعد فترة، تمَّ قطع الكهرباء لمدة طويلة عن المنطقة، ثمَّ عادت الكهرباء إلى جزءٍ منها عن طريق جهة كانت تتعامل مع المجلس المحلي… وحينها طلبوا من زوجي أن يعمل معهم على تمديد وصيانة خطوط التوتر العالي. وبما أنَّ زوجي كان متطوعاً في المجلس المحلي، وهو العامل الوحيد الذي تمَّ فصله من وظيفة الدولة، بالتالي كانت لهُ الأولوية بالعمل… فراحَ للعمل معهم.
صارَ زوجي يعمل في تصليح أعطال الكهرباء وإيصالها إلى البلدة، وكان يعلم في آن، أنَّ الجهة المسؤولة عن الكهرباء، ليسَ لديها الكفاءة للعمل في هذا المجال… فصارَ يحتاط خوفاً من وقوع أي حادثة تُضر بسلامته أثناء العمل.
كنتُ أخاف على زوجي كثيراً عندما كان يخرج إلى عمله، وأدعو له بأن يحفظه الله لي ولأولاده… وكان دائماً ما يقولُ لي أنهم لا يفقهون حتى كيفية فصل الكهرباء وإيصالها! وهذا ما كانَ يزيد من خوفي عليه أكثر!
في يوم، اتصلوا بزوجي وأخبروه أنهُ هناك عطلاً في الكهرباء وأنهُ يجب عليه تصليحه. فطلب منهم أن يؤمّنوا له خط الكهرباء (أي أن يفصلوه)، فأكّدوا له أنّ الخط مفصول… خرجَ زوجي إلى مكان العطل، ليبدأ بالعمل ظناً منهُ أنهُ لا يوجد تيار في الخطوط كما أكّدوا له… فجهّز نفسه وتزوّدَ بعدته وصعد الى عامود الكهرباء الخشبي!
عندما وصل إلى أعلى العامود وطوله سبعة أمتار، وقفَ أمام الأسلاك وربط نفسه عن طريق حزام الأمان الذي كان يرتديه… وبعدها مدَّ يده إلى الأسلاك لتصليحها، والمفاجأة أنَّ ماس كهرباء قد صعقهٌ وأمسكَ به! رغم تأكيد غرفة الصيانة أنَّ لا كهرباء في الأسلاك!
بدأ زوجي بالصراخ وتشهَّدَ على روحه وهو يصرخ بصوتٍ عالٍ… نعم إنهُ الموت!
اجتمع الناس من حوله وهم يشاهدون ما يحصل لزوجي ولا يستطيع أحد أن يفعل لهُ أي شيء، لأنه في مكان مرتفع على العامود… فذهب أحد الأشخاص إلى مكتب قسم الجهة المسؤولة، حيث كان مقرهم قريباً بعضَ الشيء، وطلب منهم فصل الكهرباء…
كان زوجي حينها ما يزال يتعارك مع الكهرباء ويستغيثُ بالله… وعندما فصلوا عنهُ الكهرباء، نزلَ عن العمود سالماً، لكن عندما وصل إلى الأرض أُغميَ عليه! صبّوا عليه الماء حتى أفاق من غيبوبته…
عندها كنتُ أنا وأولادي في المنزل ننتظر عودته ولا نعلم ما حصلَ معهُ! وإذ بسيارة تتوقّت بمدخل بيتنا… وقامَ الشبّان بإنزال زوجي منها! في ذلك الوقت ظننتُ أنّ زوجي قد مات! وقد كانت لحظات صعبة جداً علينا، حيثُ بدأ أولادي بالبكاء وأنا لم أتمالك نفسي فبدأتُ بالبكاء أيضاً!
لكن حين وصلوا إلينا، نظرتُ إلى زوجي وإذ به على قيد الحياة، سألتهُ فوراً: “ما بك؟ لِمَ يحملونك”. فأجابني وفي عينيه دمعه وقال: “إحمدي الله يا زوجتي”.
بعدما استراحَ وغادرَ الرجال الذين جلبوه إلى المنزل… قصَّ علي زوجي ما جرى، ووصفَ حالته حين تعرَّضَ للماس الكهربائي على العامود… قالَ: “لقد عرفت الموت على العمود… فقد كنتُ أشعر أني أموت بسبب الكهرباء، وهي نفسها كانت تُعيدني إلى الحياة، وقد رأيتُ قبري بأمِّ عيني، وانتظرتُ خروج روحي!وصلت الكهرباء إلى دماغي وشعرتُ بها في رأسي!”
أحمدُ لله أنَّ هذه المحنة قد مرّت على خير… لكنَّ الغريب أنهُ عندما أراد زوجي أن يستفسر من الجهة المسؤولة عمّا حصل، نصحهُ كثيرون ألا يقوم بذلك فلا فائدة من الشكوى! ولن يصل معهم إلى شيء ولن يعترفوا بخطأهم الذي كاد أن يودي بحياته … وكل ما حصل بعد ذلك، أنَّ زوجي قرَّرَ عدم العمل معهم ثانيةً…
خسرَ عملهُ بسبب مواقفه المؤيدة للثورة، وكاد أن يخسر حياته بسبب استهتار البعض! والنتيجة في الحالتين أن تُقطَع أرزاقنا دون وجه حق…
كانت تلكَ الحادثة من أصعب اللحظات التي تمرُّ علينا… فمن الصعب تخيُّل فقدانِ عزيزٍ، خاصة إن كانَ الزوج والأب ومُعيل الأُسرة.
آمنة الكشتو (32 عاماً) من قرية معرة حرمة في ريف إدلب الجنوبي. متزوجة ولديها أربعة أولاد، كانت قد حصلت على شهادة التعليم الأساسي ولم تُكمل تعليمها.