عدتُ وليتَني لم أعُد!
عمتي الصغرى هي الأقرب إلى قلبي، تعلقتُ بها منذُ الصغر. وكبرتُ وترعرعتُ في حضنها، فهي بمثابة الأخت الكبرى والصديقة. كانت تسكنُ في الحي الذي أسكنُ فيه في مدينة إدلب… نذهبُ إلى السوق معاً، ونقصد البساتين المجاورة، لنقضي اليومَ بأكمله. كنا سعداء كثيراً في تلك الأيام…
مع بداية المظاهرات في البلاد، قام النظام بنشر قواته في جميع المدن السورية. وكانت مدينتنا كباقي المدن، من حيث قمع قوات النظام للأهالي، حيث انتشرَ “الشبّيحة” في الأسواق والأماكن العامة.
ذات يوم، ذهبتُ أنا وعمتي إلى السوق لشراء بعض الحاجيات. وأثناء تجولنا، إذ بشاب رماه الشبيحة أرضاً، وانهالوا عليه ضرباً بالعُصي!
حينَ رأينا هذا المشهد، أصابنا الخوف، وعُدنا الى المنزل دون أن نشتري أي شيء. قالت لي عمتي أنها خائفة على زوجها كثيراً. فقد كان يشتدُّ غضباً، حين يرى الشبِّيحة الغدّارين. ولا يستطيع أن يُخفي الحقد الذي في قلبه!
في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2013، بدأت الوحدة تتسلل إلى داخلي.
تركت عمتي المدينة، وذهبت مع عائلتها إلى مخيمات اللجوء التركية تحت جناح الليل. هربوا من قوات النظام، بعدما عَلِمَ زوجُها من أحد أصدقائه، أنَّ الأمن سيقوم بحملة مداهمات للحي الذي يسكنُ فيه. لجأت عائلة عمتي إلى مخيم مرعش. وفضَّلوا العيش في خيمة صغيرة يأخذُ الهواء جدرانها يميناً ويساراً، على البقاء تحتَ قمع النظام وتسلطه.
في 28 آذار/مارس 2015، تحرَّرت مدينة إدلب بالكامل وأصبحت في قبضة الثوَّار. فعادت عمتي إلى منزلها، الذي كانت تحنُّ إليه كثيراً في غربتها. عادت إلى إدلب، رغم أنَّ أغلب السكان نزحوا منها.
ظنَّت عمتي أنهُ عندما تدُحَر قوات النظام من المدينة، سيعود الأمن والأمان، وتعيش كما لو كانت في السابق. لكن كانت غارات النظام لا تكل ولا تهدأ، من قصف المدينة!
يوم 3 حزيران/يونيو 2015، كان اليوم البائس الحزين بالنسبة لنا.
جاءت طائرات النظام الغادرة، لترمي صواريخها في منطقة المربع الأمني. فأُصيبَ خالد الإبن الأكبر لعمتي، الذي لم يُكمل ربيعه الخامس عشر بعد. حيثُ كان يتجوَّل مع أصدقائه في تلك المنطقة، كنوع من الفضول والحماس لرؤية المناطق التي كان يتمركز فيها الجيش، خاليةً منهُ ومن إجرامه.
كانت إصابة خالد خطيرة، أدَّت لنزيفٍ حاد، لم يتمكن المُسعفون في المدينة من إيقافه بشتَّى السبل البسيطة المُتاحة لديهم. ففارقَ الحياة…
صُعِقَت عمتي بوفاة إبنها، وضاعت كل أحلامها… “خالد يا مُهجَة قلبي.. لا تذهب وتتركني!” بهذه الكلمات ودّعت عمتي خالد…
كنتُ بجانبِها ولم أتركها… حاولتُ التخفيفَ عنها، وقلتُ لها أنَّ خالد بإذنِ الله شهيداً. لكن إحساس الأم بفقدان ولدها، يفوق كل محاولات المواساة ممن حولها.
ولم تستطع عمتي البقاء في سوريا بعد وفاة ولدها، فقالت: “كم كانَ شوقي بالعودة إلى المدينة كبيراً… لكن لم أكن أعلم ما ينتظرني هنا… فقدتُ ولدي، وقلبي لا يحتمل فقدانَ شخصٍ آخر من عائلتي… سأعودُ مع طفلتَي إلى خيمتي الصغيرة، وأُكملُ بها ما تبقَّى من حياتي… الزمن وحدهُ كفيل بأن يُنسيني بعضاً من جراحي ويُخفِّف عني. ولن أعود إلى المدينة، حتى يسقطُ النظام المجرم…”
قالت عمتي هذه الكلمات.. ودَّعتني ومضَت… فالعيشُ في مُخيمات اللجوء، أرحَم من البقاء تحت ظلم الأسد وطائراته.
ناية العبدالله (30 عاماً) من كفرنبل، متزوجة وتحمل شهادة معهد صحي… فقدت وظيفتها بسبب الأوضاع الأمنية في سوريا.