صديق الطفولة رحل

هو ابن عمتي وصديقي، كنت أعدّه بمثابة أخ لي. قضينا طفولتنا معا كانت عمتي وأولادها مقربين لنا بشدة وياسر ابنها كان أكثرهم تميزاً.

في مراحل الدراسة تفوقت أنا وياسر. كانت المنافسة هي ما يجمع بيننا، كان يريد أن يصبح مهندساً مدنياً، أما أنا فكنت مصابة بهوس كلية الطب البشري. ودائما ما كان شجارنا يغطي على اجتماعاتنا، والعائلة كلها تزيد من هذه الشجارات، قسم يصطف معي وقسم مع ياسر.
تربينا معاً وكبرنا معاً، وها نحن الآن في الصف الثالث الثانوي، عام تحديد المصير وتحديد دراستنا الجامعية. ومن العطلة الصيفية بدأنا بالدراسة والاجتهاد والتحضير ودائما ما أزور ياسر لنتشارك المعلومات، ونتبادل أهم مواضيع الدراسة. ولا ننسى أن نذكّر أنفسنا بأحلامنا، ونتراهن على تحقيقها.
في ذلك العام بدأت الثورة السورية، وبدأ حمام الدم في مدينتي من أول يوم. دوما دخلت الثورة من أوسع أبوابها، والنظام قام بالهجوم عليها وقتل أهلها. ياسر انخرط في المظاهرات التي كانت تخرج بالمدينة بشكل يومي، إضافة للدراسة أما أنا فكنت أتابع من بعيد لأن عائلتي لن تسمح لي بالاقتراب.
بدأت امتحانات الثانوية العامة، وبعد انتهائها ترقبنا النتائج، وكان مجموعي لا يؤهلني لدخول كلية الطب. أما ياسر فاستطاع أن يسجل في كلية الهندسة، وكم كانت فرحة العائلة كبيرة به.
وأنا أيضاً خففت من حزني لعدم دخولي كلية الطب بدخول ياسر كلية الهندسة، وقمت بإهدائه مسطرة المهندسين. أما هو فقام بإعطائي كل المراجع والملخصات التي يمتلكها لأنني قررت أن أعيد امتحان الثانوية.
اشتد تأزم الأوضاع في دوما، وازداد أعداد الضحايا، وتنوعت أساليب القتل، وأنا مصرّة على مواصلة دراستي. أمّا ياسر فقرّرت عمتي أن تقوم بتسفيره خارج سوريا، خوفاً عليه. توقف عن المداومة في الكلية، وبدأ يتلقى دروساً في اللغة الألمانية، إضافة إلى نشاطه الميداني في الثورة.
قدمت أنا امتحان الثانوية، واستطعت دخول كلية الطب. وذلك في ظروف كانت شبه مستحيلة للدراسة، ولكن أنعم الله علي واجتزت تلك الصعاب. فكانت فرحة كبيرة لكل العائلة وجاءني ياسر مباركاً، ولكن كان الحزن يسيطر عليه. أوضاعنا أصبحت في غاية السوء، وأهله يصرّون عليه أن يهاجر، أمّا هو فيرفض ذلك. أخبرني بأنه سوف ينتسب للجيش الحر ويقف بوجه الظلم.
أصاب الهلع عمتي وزوجها لهذا الخبر، وعبثا حاولا أن يثنيانه عن قراره. ياسر كان مصرّاً أخبر أمه أنه لن يفرّ من وجه قوات الظلم والطغيان، وأن حلمه بالهندسة تحول لحلمه بالتخلص من ظلم بشار الأسد. هو لن يترك مدينته التي تربّى فيها مع أصدقائه وأهله، ويذهب بعيداً حيث لا تاريخ له ولا عائلة تحتضنه. وتوسل ياسر أمه أن ترضى عنه وتدعه يذهب في ما رغب.
انضم ياسر إلى كتائب شباب الهدى التابعة للجيش السوري الحر، وتألق بين المجاهدين وأصبح يشار له بالبنان. فهو حسن السيرة طيب الخلق شجاع لا يهاب الموت.
حين قصف نظام الأسد الغوطة الشرقية بصواريخ الكيماوي، كانت مجموعة ياسر بقيادته مرابطة في منطقة القاسمية، كانت نوبته بالحراسة فوصله تعميم اللاسلكي بضرورة ارتداء أقنعة الكيماوي وإجراء التدابير الأولية لأن النظام قصف الغوطة الشرقية بالكيماوي. فهرع ياسر إلى معداتهم فلم يجد فيها إلّا قناعين اثنين، وهم 11 شاباً، فقرر ياسر بسرعة أن لا يوقظ أصدقاءه، و ألّا يرتدي هو أو أي شخص القناع، ليموتوا جميعاً. وفعلاً بقي إلى جانب أصدقائه في تلك الليلة التي أودت بحياة الكثيرين. كان يتلو آيات القرآن محتسباً ربه في تلك المصيبة، ولسانه يلهج بالدعاء. وفي الصباح عندما انتهت فترة حراسته استيقظ زملاؤه، وكانت حالة الاستنفار قد عممت على الجميع فنهضوا بسرعة ليعلموا بتلك الجريمة النكراء. وعند سؤال ياسر عن عدم إيقاظهم أجابهم بأنه لم يجد إلا قناعين، فلم يعرف ماذا يفعل فقرر أن يلاقوا جميعهم نفس المصير، فإن نجوا نجوا جميعاً و إن كان الموت مصيرهم فسيلاقونه جميعاً.
ومع ازدياد الحصار على الغوطة الشرقية حدثت معركة كبرى قادتها فصائل الجيش الحر بغرض كسر الحصار وفتح الطريق، شارك فيها ياسر، وخلال الاشتباكات مع جيش النظام استشهد ياسر وبقي جسده الطاهر ملقى على الأرض. لم يستطع أن يسحبه الجيش الحر بسبب وجوده في مرمى نيران القناص.
زفّت مآذن مساجد مدينتي المكلومة أسماء كوكبة من أبنائها في تلك المعركة، وسمعت اسم ياسر. كاد أن يغمى عليّ، ركضت إلى النقطة الطبية لأتأكد من أسماء الشهداء. وكم كانت فاجعتي كبيرة عندما علمت أن الخبر صحيح. لم أمتلك إلّا الدموع لأعبّر عن حزني، وصفحتي على فايس بوك لأنشر صور البطل ياسر. وحضن عمتي لأبكيه…
ذهبت إلى لمكتب الإعلامي، لأسأل إن كان هناك من مصوّر حربي قام بتصوير المعركة، وحصلت على الشريط المصور لأشاهد ياسر في المعركة حيث قضى نحبه مع خمسة من زملائه كان ذلك في 30 آب/أغسطس 2013……..

حنين عبد الرحمن، تركت دراستها في الطب بشري في سنتها الجامعية الثالثة في دمشق، لتذهب إلى الغوطة وتعمل فيها كمسعفة لمدة سنتين. عملت في العديد من النقاط الإسعافية والطبية. ومنذ شهرين اضطرت لترك الغوطة وعادت إلى دمشق.