سأكتب عن معاناتي ومعاناة غيري
: طفلات سوريات يلعبن داخل سيارة مدمرة في أحد أحياء مدينة درعا جنوب سوريا
"حان الموعد وحزمت حقيبتي استعدادًا للسفر بطريق مجهول لا أعلم ما الذي ينتظرني في نهايته. "
بدأت حكايتي حين توقفت عن الدراسة مع بدء الثورة في مدينة حلب. لم أستطع الالتحاق بدوامي المدرسي بسبب انقطاع الطريق بين المدينة والريف في العام 2012، ووالدي لم يسمح لي بالبقاء عند أحد من أقاربي لتقديم امتحان الثانوية العامة.
لم يجد الندب أو البكاء نفعًا فرضخت للأمر الواقع. لم نكن كأسرة مدركين ما نحن مقبلون عليه. الأوضاع تسوء يومًا بعد يوم مع ازدياد وتيرة القصف والاقتتال وانتشار الحواجز.
ومرت سنة على هذا الحال دون أي تغيير يذكر. في ذلك الوقت لم أعد قادرة على المكوث دون دراسة. وفي كل يوم أتواصل فيه مع بعض صديقات المدرسة فيخبرنني بأنهن سيقدمن الاختبارات الجامعية.
تواصل القصف بالبراميل والطيران الحربي والمدفعية التي لم تكن تهدأ أصواتها، وخلت منطقتنا من السكان، وغابت مقومات الحياة، إضافة الى الضغوطات النفسية التي كنت أعاني منها، بسبب مكوثنا لأكثر من شهرين في ملجأ مليء برائحة العفن والرطوبة التي كادت تخنقنا.
واتخذت قراري بأن أتقدم” للثانوية العامة حرة” وأحضرت ما استطعت تأمينه من الكتب وبدأت بالدراسة في ظروف مأساوية. كتب غير مكتملة، أسئلة واستفسارات كثيرة ما من أحد يجيبني عليها.
ضوء شمعة ضئيل جداً يتراقص مع كل غارة جوية تلقي حملها على أحد الأبنية السكنية المجاورة. نغمض أعيننا ونحن نتلو بعض من الآيات القرآنية. تنتهي الغارة نتحسس رؤوسنا ما زلنا على قيد الحياة هذه المرة أيضاً. أعود لأمسك كتابي أضعه ملاصقاً أمام عيني لأتمكن من الرؤية وانهاء قراءة مابدأت به قبل عودة الغارة الثانية.
كانت أمي تشجعني وتساندني على هذه الخطوة. على عكس والدي تمامًا الذي كان يحثني على التأجيل ريثما تنتهي الحرب. ومع اقتراب موعد الامتحانات تواصلت مع صديقتي “قمر” التي تسكن في المدينة وطلبتُ منها أن تقدم لي أوراقي في الامتحانات وتسجلني مع المتقدمين الأحرار.
حان الموعد وحزمت حقيبتي استعدادًا للسفر بطريق مجهول لا أعلم ما الذي ينتظرني في نهايته. بدأت السيارة بالتحرك في طريق متعرج وعر. تتوقف بين الحين والآخر عند حواجز لم نعتد على رؤيتها سابقًا.
أشخاص يثيرون في نفسي التساؤل والتعجب والخوف بسبب اللثام ووجوههم الغريبة، إضافة الى حواجز النظام التي كانت تسخر مناز أذكر ذاك العنصر يقول: عندما نقصفكم تتراجعون، نهزمكم، فإذا بكم تأتون إلينا. ذاهبون إلى حلب وعائدون من حلب.
بعد مضي عشر ساعات على انطلاقنا من حلب شارفنا على الوصول إلى مدينة حلب التي سافرنا منها وإليها. شيء غريب ومضحك، بعد أن كان الطريق من الليرمون لساحة سعد الله الجابري لا يستغرق عشرة دقائق فقط. وصلنا الى منطقة الراموسة مروراً بحاجزها الطويل الذي يشبه طابور الوقوف على فرن الخبز بداعي ما يسمى التفتيش. ومررت بسلام.
تقدمت للامتحانات وانا محملة بأفكار وضغوطات كثيرة لا أستطيع تجاهلها أو تناسيها. مضى شهر على نهاية الامتحان لكن القلق لم يفارقني ثانية بانتظار معرفة النتيجة. إنها لحظة حاسمة يتم فيها تحديد مستقبلي. إلا أنها لم تكن متوقعة.
نعم لقد رسبت، الإحباط أو الفشل شيء مدمر لمن يتمنى النجاح ويسعى بشتى الوسائل لتحقيقه، لم توقفني نتيجة الرسوب. بل أعطتني دافعًا وحافزًا أقوى على المحاولة من جديد والالتحاق بما يسمى الدورة التكميلية، ليكرمني الله بالنجاح الذي تمنيته.
لم أستطع التسجيل في جامعة حلب لرفض والدتي بقائي بمفردي وتعلقها بي. بحكم أنني ابنتها الوحيدة المتبقية في البيت. عدت أجر ذيول الخيبة معي. أصبحت أمتلك شهادة ولكن مع وقف التنفيذ. سنة أخرى والحرب والمجازر والموت حاضرًا أمام عيني أشاهده في كل لحظة منتظرة أجلي كغيري.
بعد تكثيف الطيران الروسي غاراته الهوجاء الانتقامية اضطررنا إلى مغادرة منزلنا كغيرنا من السكان متجهين إلى مدينة إدلب لعلها تكون ملاذاً آمناً وإن كان مؤقتًا. لم تكن إدلب مجرد منطقة آمنة، كانت نقطة التحول في حياتي وإكمال دراستي.
التحقت بجامعة إدلب في المعهد التقني للإعلام. وأخذت أشق طريقي في توقيع أول مادة صحفية متحدية ظروف الحرب وآخذة منها منطلقا لكتابتي عن معاناة طفل انتشل من تحت الركام ليصبح وحيدا بلا والدين. لعلني بكتابتي عنه وعن غيره أوصل أصواتاً مكتومة.
مسترجعة في ذاكرتي شريط الأحداث التي مررت بها خلال الخمس سنوات الماضية، وكأنها اليوم متذكرة جميع أحبّتي الذين فارقوا الحياة وكانت دماءهم ثمناً للحرية.
توقيعي على أول مادة صحفية أكتبها بمثابة تحقيق حلم طالما تمنيته منذ الصغر وسعيت إليه، متحدية ظروف الحرب وآخذة منها منطلقاً في كتابتي عن مأساتي ومأساة غيري سعيًا لتحقيق حلمي بأن أصبح صحفية.
سيلا الوافي (22 عاماً) من حلب، طالبة جامعية في معهد الإعلام.