رغيف خبز وبحيرة دم
على عجل، وتحت ستار آخر ليلة قضيناها مع والدي. في بيتنا الذي غدا مخيفاً بارداً لا يقطنه سوى الأشباح. على ضوء شمعة لا يتجاوز طولها 2 سنتيمتر، كانت تضيء وحشتنا وفزعنا في تلك الليلة. انقطع التيار الكهربائي وعويل رصاص القناص المتمركز في شارع بيتنا يخطف العقول قبل الأسماع والأبصار، فلم يسلم منه لا بشر ولا شجر ولا حجر.
ليلة ليلاء بكل مافيها، غفوت. كيف لا أدري. لم أصحُ إلّا على آخر نداء لوالدي لي: “بنيّتي الفطور جاهز”. يكمل والدي مكالمته مقهقهاً مع أحد أخوتي المحاصرين في منطقة أخرى من المدينة، “ولدي لاتخف، الخبز سيصلك إلى باب بيتك، سنؤمن ما يكفي لنا ولغيرنا قدر المستطاع. ربما يكون الحصار طويلاً كأيام المجزرة الفائتة. كن مطمئناً”.
الساعة الآن الثانية بعد الظهر، والدي يريد الخروج. “والدي أكمل فطورك، لا تخرج فلم يسلم أحد من هذا القناص، نحن لسنا بحاجة لشيء” اقول له. ويمضي مردداً: “ابن التاسعة لن يصبح ابن العاشرة، فرائحة المجزرة وحصارها الخانق لم تغادر أنوفنا بعد يا ابنتي”.
عند الساعة الثانية والربع، اخترق مسامعي صوت رصاصة أفقدتني ذاكرتي، وأحرقت الدم في شراييني. صوت إطارات سيارات تنفجر، والباب الخلفي لبيتنا يُقرع بقوة. لم نفتح خشية أن يكون أحد من عصابات المداهمات وسلب الأعراض، الباب يقرع أكثر فأكثر. سمعنا صوت أحد الجيران يصدح بكل ما أوتي من قوّة: “القناص استهدف والدكم”.عرفنا حينها أن هذه الرصاصة كانت قد اخترقت جسد والدي، ولكن يجب أن نتيقن أولاً. هرولنا مسرعين إلى مكان تواجده وسط صراخ أبكم أصم. بالفعل إنه والدي، كان غارقاً في بحيرة دم، ربما يلفظ أنفاسه الأخيرة. موضع الإصابة كان في الرأس. بيني وبينه متر واحد. لا بل مترين، لم أستطع الاقتراب منه ولم أجرؤ، فالقناص ما يزال مصوباً زناده نحوي، ورصاصه سيصيني في أي لحظ. صراخ هستيري بلا دموع يملأ المكان، نستنجد ولكن ما من منجد، لا أحد هنا ولا أحد هناك. أخوة مسافرون، وآخرون محاصرون. كيف سأوقف النزف؟ وما الإجراءات والأدوية التي ستلزمنا؟ لا أملك منها شيئاً سوى رحمة ربي. ولم أجرؤ على الاقتراب منه أصلاً. حتى خرجت إحداهنّ من بيتها، ربما كان قلبها أقوى من قلبي، زحفت إليه مع ابنتها وفتحتا باب السيارة، قامتا بنقله مع أحد الشباب إلى سيارة أخرى. نُقل للمستشفى، الرصاصة التي أصابته لم تبقَ في موضعها، خرجت ولكنها انفجرت وأفرغت كل ما فيها من حقد ونار دفينين قبل خروجها. يحتاج لعمل جراحي، قاموا به ونجح، هذا ما قاله أحد الأطباء لمن رافقه إلى المستشفى. لكنه بحاجة إلى عناية مركزة، ولا مكان هنا، نرجو البحث عن مستشفى تستقبل إصابات لنقله إليها بأقصى سرعة. لم نلحق، كان يضع بيده ساعة تعمل بنبضات القلب، توقف نبض الساعة مع توقف نبضه.
عند الساعة الرابعة عصراً ترك الحياة وسافر بلا عودة. إلى حياة أصفى وأسمى من حياة الذل هذه. ما كُتب في المحضر حينها عن سبب الوفاة كان وكالعادة كذب ونفاق وخداع. “بفعل الإرهابيين والعصابات المسلحة” وأي إرهابيين! كثيرون مثلنا تعرّضوا لمواقف ربما أنستهم الحليب الذي رضعوه من أمهاتهم.
وإلى الآن، والدي لم تكمل فطورك بعد، ولم تعد. إبريق الشاي ملّ الانتظار يا والدي، وقصعة اللبن باتت تشكو الوحدة، وأبناؤك ما زالوا حائرين بشأنك أبتاه. نحن لا نريد خبزاً فلدينا الكثير. عُد إلينا.
لم يعُد أبي. لم نره منذ تلك اللحظة. دُفن ولم نقبّل جبينه حتى آخر قبلة وداع.
رغيف خبز وبحيرة دم، هذا كل ما بقي من أبي.