رصاصة فرح طائشة سلبتني سعادتي
اطفال من مدينة زملكا ورائهم بناء مدمر
"سلم كل من في الشارع إلّا ابنتي. رسمتُ في مخيلتي جميع المواقف التي من الممكن أن يتسلل الموت من خلالها إليكِ. ولكن لم يخطر ببالي ولو لدقيقة أن يكون رحيلكِ بهدوء هكذا. "
منذ صغري كنت أطلق على دميتي اسم أمل إلى أن تزوجت وجاء اليوم الذي أصبحت أمل فيه طفلتي. بث الله في جسدي روحاً حملتها في رحمي 9 أشهر وبين يدي هاتين 10 سنوات.
أذكر حين شعرت بركلاتها في جوفي لأول مرة تذكرني باقتراب موعد أمومتي. نعم وُلدت أمل، هذه المرة لم تعد دميتي بل أضحت حياتي كلها. أذكر كيف كنت أعنى بتنسيق ضفائرها الشقراء مراراً إلى أن تنال إعجابها. وكيف لا أهتم بتسريح شعرها وانتقاء ملابس طفلتي الوحيدة التي ملأت حياتي بعد 5 أعوام من العلاج والإنتظار على أمل الإنجاب .
لم تعش أمل طفولتها كأي فتاة، فخوفي الزائد عليها يوماً بعد يوم تحول إلى وسواس. آثرت تدريسها في البيت بدلاً من المدرسة. تركت وظيفتي كمعلمة لغة عربية لأتفرغ لتربيتها والإعتناء بها.
اشتريت لها كل ما تتمنى من الدمى، علّي أتمكن من إبقائها في المنزل، بعيدة عن باقي الفتيات اللواتي لطالما لاحظتها تراقبهن من شباك بيتنا، وتلاحق بنظراتها قفزاتهن ويثير صوت ضحكاتهن شفاهها أحياناً فتبتسم.
كنت أتساءل دوماً كيف تترك تلك الأمهات فتياتهن يلعبن في الشارع، بالرغم من القصف الذي كانت تتعرض له مدينة معرة النعمان. ألا يخفن على أطفالهن؟ لا أدري لماذا كنت أظن أن بيتنا محصّن من الدمار والقصف، وأنه المكان الوحيد الآمن في هذه المدينة .
كبرت طفلتي يوماً بعد يوم، وكبر خوفي عليها أكثر مع ازدياد سوء الوضع الأمني في المدينة. أصبحت أحسب للإنفجارات حساباً أكبر من القصف. واستولت على أفكاري هواجس فقدانها مع سماعي لنشرات الأخبار اليومية التي يتصدرها الموت بمختلف أشكاله.
لم أترك لقلقي أو خوفي أن يؤثرا عليها بشكل سلبي. إذ لطالما كنت صديقتها وأمها ومعلمتها وجدتها التي تقص عليها كل يوم قصة أميرة تنتهي بثوب عروس أبيض وطرحة، إلى أن تنام. أتدرون كيف تنام أمل؟ تنام بأعين نصف مفتوحة كملاك طاهر يرتقب قدوم غدٍ أجمل .
وفي صباح أحد الأيام كنت قد أعددت الطعام، وأيقظتها وووالدها لنتناول سوياً وجبة الإفطار قبل أن ينطلق زوجي لعمله مع إحدى المنظمات الإنسانية، بعد أن يطبع قبلة على جبين وحيدتنا ويستودعنا الله ويمضي. كانت عائلتنا قليلة العدد، ووضعنا المادي مستقر، وتكاد حياتنا تخلو من المشاكل.
في ذاك اليوم وبعد أن انتهينا من الدروس أعطيتها فرضاً دراسياً. أن تكتب موضوعاً عن صديق. ظننتها ستفشل في الواجب، بحكم عدم إمتلاكها لأي صديقة سواي. كنت منهمكة في تنظيف البيت عندما سمعت صوت إطلاق رصاص يتعالى أكثر فأكثر. أدركت حينها أنه تشييع لجنازة أو ربما فرح.
حاسة الأم السادسة خانتني هذه المرة، خانني خوفي ووسواسي ودأبي الدائم على ملاحقتها من مكان إلى مكان، إلى أن أقتحم صوت تحطم الزجاج مسامعي وغاب صوت الرصاص لبرهة .ركضت بإتجاه غرفتها كانت المسافة أطول من مسيرة عمري بأكمله، أطول من درب التبانة ذاك الذي سهرت وإياها البارحة نعد نجومه.
كل الجهد البدني الذي بذلته بحياتي كان أسهل من فتح مقبض باب تلك الغرفة، ماذا أفعل بعيون أم تمنت العمى قبل أن ترى أملها ممدداً على الأرض، أملي يلفظ آخر أنفاسه، من صدر صغير لم تلوثه زحمة الحياة بعد. رصاصة طائشة إخترقت زجاج النافذة الوحيدة على شارع الطفولة، وأفسدت تسريحة شعرها الذي كانت تقيس طوله يوماً بعد يوم، وضرجت فستانها الزهري بالدماء .
لم أتمكن من الإتصال بالإسعاف حتى. كانت إصابتها برأسها وما لبثت أن أمسكت قبضة يدها الصغيرة إلا وانطفأ النبض في عروقها. وأغمضت أمل عينيها بالكامل، ودخلت في ثبات عميق عجز صراخي عن إقتحامه. ولم تنفع دعوتي لها بالنهوض وإلقاؤ نظرة أخيرة على الشارع، فهي لن تنهض أبداً بعد اليوم.
سلم كل من في الشارع إلّا ابنتي. رسمتُ في مخيلتي جميع المواقف التي من الممكن أن يتسلل الموت من خلالها إليكِ. ولكن لم يخطر ببالي ولو لدقيقة أن يكون رحيلكِ بهدوء هكذا. فجدران البيت لا زالت من حولي قائمة وسريركِ مرتب ودميتك مبتسمة وسطور دفترك بموضعها تنتظر خربشات قلم لا يزال على تلك الطاولة.
وفي الحي القريب لا تزال أبواق الفرح تدق، لا يوجد شيء يدل على رحيلك سوى الزجاج المتناثر على الأرض والدماء وتلك الراصاصة. ألم تجد رصاصة الفرح الطائشة تلك سوى شباك غرفة أملي لتسلبني سعادتي للأبد؟ ألا يسعكم أن تحتفلوا من دون أن تقيموا في قلبي بيت عزاء؟ وبما سأقاضيكم؟
نور القدور (25 عاماً) تعيش في سراقب، حاصلة على شهادة أدب إنكليزي.