“دكتور، الله يوفقك، حاول مرة تانية”

لا أذكر التاريخ ذاك اليوم تماماً ولكنه كان في آب/أغسطس 2014. كان يوماً عادياً من أيام مدينتي المنكوبة دوما.

كنت تفرغت للعمل بشكل كامل لأساعد في إعالة عائلتي في هذه الظروف الصعبة. تركت دراستي الجامعية في دمشق وعدت إلى دوما. بدأت أساعد في إسعاف الجرحى وبتدريس اللغة الإنكليزية لطلاب المرحلة الابتدائية. دوما بعد نزوح أغلب المثقفين منها بسبب الحرب، أصبحت تعاني من نقص كبير في الكوادر في كل القطاعات و أغلب الناس تعمل في أكثر من مهنة.

كنت في ساعات الصباح الباكر أخرج إلى المدرسة لأعطي دروسي، بعدها أتجه إلى النقطة الطبية. عند حدوث قصف أو غارة، أستنفر بشكل كامل في الإسعاف. ومن خلال عملي أصبحت معروفة لدى أغلب أهل المدينة، وكثيراً ما تستوقفني في الطريق حالات بقصد المراجعة والاستفسار. بدأت صديقاتي بتجنّب مرافقتي لكثرة ما أتعرض له من مواقف.

في ذلك اليوم كنت في طريقي إلى المدرسة، حيث النادي الصيفي للطلاب لاستدراك ما فاتهم من معلومات خلال العام. أثناء عبوري الشارع سقطت قذيفة هاون عند مفترق طرق، كانت هناك أم وطفلتها بالقرب من محل للبقالة وصاحب المحل وعدة أشخاص سقطت القذيفة بينهم، وأصيبوا جميعاً.

ركض الناس لإسعافهم، ومباشرة تم إيقاف سيارة شحن متوسطة الحجم لنقل الجرحى. حاولت الاقتراب لأرى ما حصل ولم أدرِ إلّا بشخص يصرخ: “هي دكتورة افسحوا لها الطريق لتسعفهم”. وإذ بجموع الناس تلتف حولي، وتدفعني باتجاه سيارة الجرحى. لم أدرِ كيف أصبحت داخل السيارة.

مباشرة صرخت بالسائق: “إنطلق إلى النقطة لا أستطيع أن أقوم بشيء لأنني لا أحمل أدوات الإسعاف”. قاد السيارة بشكل جنوني، حاولت فحص الطفلة فوجدتها قد استشهدت أمّا الأمّ فكانت إصابتها طفيفة نوعاً ما. أحد الرجال الجرحى كانت ساق أحدهم تستدعي البتر، أما إصابات الآخرين فطفيفة.

أم الطفلة كانت تبكي وتصرخ وهي تمسك بابنتها، تحاول إيقاظها ظنّاً منها أنها نائمة دون جدوى. حاولت أن أبعدها عنها لكن دون جدوى. أخبرتها أن ابنتها قد تكون فارقت الحياة، ولكنها كانت تصرخ، ترفض أن تصدّق. تمسك بيدها وتقبّلها، تحاول أن توقظها لكن دون جدوى. تركتها وحاولت كتم دموعي، فهي لن تصدق ما أقوله.

وصلنا إلى النقطة الطبية، أسرع المسعفون باتجاهنا. قاموا بإنزال الجرحى، وبسرعة نزلت قبلهم، ومباشرة جهزت نفسي، وأخبرت الطبيب تقييمي الأولي للحالات المصابة. قام الطبيب بداية بمعاينة الطفلة، حاول إنعاش قلبها المتوقف لكن دون جدوى. أعلن وفاتها والأم تصرخ: دكتور، الله يوفقك، حاول مرة تانية ابنتي ما زالت حية لم تمت”. كانت تبكي ونحن نجاول أن نخيط لها الجراح التي أصيبت بها، وهي ترفض خوفا من أن نبعدها عن ابنتها. بعد ربع ساعة على إعلان وفاة الطفلة، جاء والدها. حاول إيقاف الأم عن نحيبها، كان يدعوها إلى الصبر وأن تترحم على ابنتها، وهي تصرخ وتبكي.
بعد الحادثة تم إفراغ النقطة الطبية من المصابين، تم نقل الحالات الطارئة إلى غرفة العمليات، ومن يحتاج إلى عناية إلى نقطة الاستشفاء، ومن حالته تسمح بنقله إلى المنزل تم نقله إلى منزله. أمّا الطفلة فتم نقلها إلى الدفاع المدني حيث قاموا بتجهيزها، من أجل الدفن.

أما أنا فغيّرت ملابسي التي اتشحت بالدم، وخرجت من النقطة مسرعة إلى المدرسة، ما زال هناك حصة أخرى لي غير التي لم أستطع تقديمها لانشغالي بعملية الإسعاف. دخلت إلى المدرسة، وتوجهت إلى غرفة الصف مباشرة حيث أعطيت الدرس، وأنا أتخيل أن هؤلاء الطلاب جميعهم سيموتون، كما ماتت تلك الطفلة، و لن يتحرك أحد لحمايتهم …
وعندما انتهت الحصة الدراسية، خرجت من الصف وذهبت إلى الإدارة، أبلغت المديرة عن سبب غيابي عن الحصة الأولى، فقالت لي بأنها توقعت أن أكون في الإسعاف، فهذه ليست المرة الأولى التي أتغيب فيها بسبب الإسعاف.

رويت لها قصة الأم وابنتها، لم تتمالك نفسها وهي تبكي وتقول العبارات المعهودة في مثل هذه المواقف. حتى أنني لم أعد أسمع كلماتها، فالتعب سيطر على جسدي. اعتذرت منها، وخرجت من المدرسة باتجاه بيتي، فلم تعد لي طاقة لأعود للنقطة الطبية.

دخلت المنزل، فوجئت أمي بعودتي باكراً إلى المنزل على غير عادتي، أخبرتها على عجل بما حدث. ثم ألقيت بنفسي على سريري وبدأت بالبكاء.

صورة تلك الصغيرة لم تفارق مخيلتي، قبل لحظات كانت تمسك بيد أمها وترجوها أمام الدكان، فجأة أصبحت جثة هامدة لا تتحرك. صوت أمها عبثاً أحاول إخراجه من رأسي. بدأت أكره نفسي، وأكره العمل وأكره كل شي. فأنا أعيش بمنطقة يقتلها الحقد يومياً، وبصمت مطبق من العالم أجمع، وطاقتي على التحمل بدأت تنفذ.

لا أعلم ما الذي سيحدث اليوم، ولكنني على ثقة أن تلك الطفلة لن تكون الأخيرة في مدينة الأحزان دوما.

حنين عبد الرحمن، تركت دراستها في الطب بشري في سنتها الجامعية الثالثة في دمشق، لتذهب إلى الغوطة وتعمل فيها كمسعفة لمدة سنتين. عملت في العديد من النقاط الإسعافية والطبية. ومنذ شهرين اضطرت لترك الغوطة وعادت لدمشق.