حين رحل القمر السعيد
مهداة إلى روح الشهيدة قمر السعيد
ارتشفت قهوتها بصمت. بابتسامة هادئة تابعت حديثها مع ابنة عمها التي شاركتها أحزانها ونزوحها، إلى تلك المزرعة البعيدة عن مدينتهما دوما المنكوبة.
حادثتها عن شوقها إلى ابنها خليل الذي استشهد قبل أن يبلغ الثامنة عشر من عمره. فقالت لها بأنها أيضاً مشتاقة لابنها الذي لم يمض على استشهاده شهرين. أصوات الأولاد الذين كانوا يلعبون في المزرعة، حملتهما بين ذكريات طفولة من رحلوا وأطفالهما اليوم.
كانت قمر مثالاً للصبر والتضحية وللمرأة المعطاءة. بدأت قصتها مع الصبر منذ أن تزوجت. إبنة الستة عشر عاماً زُفَّت عروساً جميلة إلى بيت زوجها الذي فقد والده منذ سنواته الأولى، وبقيت أمه التي نذرت نفسها لتربيته مع أخيه بكدّها وجهدها.
لم يمضِ على زواجها 5 سنوات حتى أصيبت والدة زوجها بشلل نصفي منعها عن الحركة، فكانت قمر خير الممرضة والابنة. رعتها واهتمت بها ولم تتأفّف بوجهها. يشهد لها جميع من دخل ذاك المنزل بصبرها وحسن خلقها. واهتمامها بوالدة زوجها ما يزيد على 10 سنوات حتى توفيت. وبعد وفاة والدته أصبحت لزوجها كل العائلة. أنجبت 3 بنات و3 صبية. زوّجت ابنتها لابن شقيقتها في حفل زفاف، كان يعدّ من أفخر الحفلات في مدينتها. بعد 3 أعوام زوجت ابنتها الأخرى لابن شقيقتها أيضاً. كانت تربيتها لبناتها وسيرتهن العطرة محط إعجاب الجميع.
عندما انطلقت الثورة السورية، انخرطت عائلتها فيها بشكل كامل. تبرّع زوجها بماله وشارك بنفسه. ابنها الكبير بين إخوته الذكور لم يكن تجاوز 15 عاماً من عمره حين برز كأحد أهم الفتية المنظمين للمظاهرات. وعندما بدأ العمل العسكري توسل لأمه الرافضة التحاقه بإحدى كتائب الجيش الحر التي تشكلت في المنطقة. رضخت عند إصراره رغبته، فالتحق كمصور في كتيبة البراء المتواجدة في الغوطة الشرقية. ولم يمض على التحاقه عدة أشهر حتى استشهد خلال مواجهات مع الجيش النظامي. وعندما صدرت نتائج الشهادة الإعدادية التي كان تقدم إليها قبل ذهابه إلى المعارك، ذهبت قمر إلى مدرسته لتحصل على شهادته التي تركها، لينال شهادة أرفع منها وأنبل. كسرها استشهاد ابنها، ومزق فؤادها، ولكن مازال لديها الكثير من المصائب تنتظرها.
تابعت حياتها ودفنت جرح ابنها في قلبها بعد أن ترك ندوب القهر على وجهها الذي شاخ قبل أوانه. وفي نهاية عام 2012 اعتقلوا زوج ابنتها البكر التي كانت تنتظر برفقته مولودهما الأول، لتصبح وحيدة وتعود إلى بيت أهلها مكلومة تبحث عن خبر يطمئنها عن زوجها. أما ابنتها الثانية فرحلت مع زوجها إلى ليبيا خوفاً من الاعتقال. عرضوا عليها السفر، ولكنها رفضت أن تترك الأرض التي ضحى ابنها بدمه لتكون حرة.
بعد الهجمة العنيفة على مدينة دوما اضطرت للنزوح مع عائلتها إلى بلدة مجاورة. عانت في نزوحها وبعدها عن منزلها. وما إن تحررت دوما من سلطة النظام، حتى عادت مسرعة إلى منزلها. قامت بإصلاحه من الأضرار التي لحقت به بفعل الغارات والقصف.
تجدّدت معاناتها مع الحصار الذي فرض على الغوطة، باعت كل مدخراتها وممتلكات زوجها، لتصمد العائلة في وجه الحصار القاسي. ذهب كل ما لديهم في سبيل لقمة العيش الكريم. كثرت الأعباء وازدادت. متطلبات أولادها الصغار بدأت تزداد مع تقدمهم في العمر، وهي تحاول أن تلبّي حاجاتهم التي أصبحت على الرغم من بساطتها مستحيلة في الظروف التي تعيشها المدينة.
في 3 آب/أغسطس 2014، أغارت طائرة تابعة للنظام بالقرب من منزلها فأصيب زوجها إصابة بليغة، فقد قدميه الاثنتين وإحدى عينيه. عادت لتلعب دور الممرضة من جديد. الممرضة الصابرة التي قامت برعاية زوجها حتى التأمت جراحه. وقفت إلى جانبه كما هي عادتها. دفنت في قلبها حزنها لتغدو شبيهة بالبشر، فصبرها وقدرتها على العطاء، حولها إلى ملاك يتحرك على الأرض.
مع اشتداد الحملة الأمنية والقصف على مدينة دوما، وي المنزل الذي تعرّض للقصف أكثر من مرة، ومع والد مصاب، أصيب أفراد العائلة بحالة من التوتر والخوف، سيطر عليهم القلق. قررت أن ترحل بهم من جديد. تركت منزلها حرصاً على أفراد عائلتها. استقرت في مزرعة تعود ملكيتها لأقربائها في منطقة الشيفونية. هناك أعادت ترتيب حياتها من جديد.
أذكر حين ذهبت لزيارتها هناك، وجدت المكان وكأنه يعود إلى حقبة زمنية ماضية، لا تشبه زمن التكنولوجيا والحضارة. قامت مع أبنائها بزراعة الأرض ليقتاتوا منها. سكنوا في غرفة بسيطة، بأثاث بسيط. على مقربة منها بئر يستخرجون منه الماء. وفي ذاك المكان البعيد كانت ترسم على وجهها ابتسامة الرضا.
الكرم كان من سماتها الأساسية، فعلى الرغم من فقر الحال الذي وصل إليه أغلب أهالي الغوطة، إلّا أنها كانت تكرم وفادة من يقوم بزيارتها، وتقدم له الطعام حتى لو حرمته لأبنائها.
كانت تردد سيرة ابنها الشهيد كثيراً، فحنينها إليه فاض وزاد. وابنتها المسافرة البعيدة عنها بدأت تقول بأنه من المستحيل أن تجتمع بها من جديد. فالحرب لا يبدو أنها تريد مغادرة سوريا.
تلك الجلسة الهادئة مع ابنة عمها، قاطعها صاروخ غادر اخترقت شظاياه قلبها الطيب. شظية حملتها إلى جوار ابنها مع ابنة عمها في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
هبة الرحمن (29 عاماً). رئيسة مكتب المرأة في المجلس المحلي في دوما. مديرة تنفيذية لمركز شام الحقوقي للإحصاء و التوثيق في الغوطة الشرقية. التحقت بالثورة وتعرّضت للاعتقال مرّتين. عملت في الإغاثة و الاعلإم و تنظيم المظاهرات. قمر السعيد هي شقيقة أمها الصغرى.
بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي