حين تركنا دير الزور لداعش
رجل مسنّ يستريح خلال هدنة في دير الزور
"وصلتنا تسريبات من الجهاز الأمني التابع لداعش أننا مطلوبان لارتكاب مخالفات جسيمة وفق شريعتهم. فأصرت أمي علينا أن نسافر فجراً"
آذان الفجر يعلن يوماً جديداً، السبت 8 آب/أغسطس 2015 . لأول مرة في حياتي لم أكن أتمنى أن يصبح الصباح. تباً لهذا الصباح ما أثقله!
ها هي أمي تدعوني لصلاة الفجر سريعاً، خوفاً من أن تفوتني الحافلة. علينا مغادرة المدينة أنا وأخي بأسرع ما يمكن. وصلتنا تسريبات من الجهاز الأمني التابع لداعش أننا مطلوبان لارتكاب مخالفات جسيمة وفق شريعتهم. فأصرت أمي علينا أن نسافر فجراً.
ودّعنا أنا وغزوان أمي وشقيقاتي بكلمات مقتضبة. وفي الحقيقة كانت أمي قوية جداً. أو على الأقل تحاول الظهور أمامنا هكذا. أما أنا فكنت الأضعف بين الموجودين. الألم الذي يعتصرني لا أستطيع ولا أحب حتى اليوم تذكره.
خرجنا من بيتنا، والذي هو في الحقيقة ليس بيتنا، لأننا نزحنا إليه. بيتنا الحقيقي لم يعد صالحاً للسكن منذ العام 2012، بعد أن تعرض ولأكثر من مرة لقصف عنيف. وكان آخرها صاروخ حراري قبل خروجنا من الدير بأيام.
أمّا بيتنا الحالي حيث كنا نقيم، فكنّا نحبه كثيراً. فهو الذي عشنا به أيام التحرير. وشهد أجمل وأصعب وأخطر اللحظات في ذلك الزمن الجميل. والتصق بالكثير من ذكرياتنا.
خرجما ونحن لا نتوقع عودة قريبة. لأننا نعي خطورة الوضع تماماً. وما زلت أذكر حتى اليوم كيف مشينا تلك المسافة التي تفصل بين بيتنا والمكان الذي تنتظرنا السيارة فيه، عند شارع التكايا. كنت أمشي وأنا أنظر لتكية النقشبندي والتي تعاون على تخريبها القصف والدواعش. وكم تمنيت لو أستطيع الاقتراب منها كي أودعها. كانت جزءاً من ذاكرة طفولتي ولكن هيهات… صار الأمر صعباً اليوم .
كنّا نمشي هذا الطريق بمشاعر حزينة وقلوب مكسورة، وفوق هذا وذاك قلق وتوجس. وصلنا إلى السيارة وركبنا ومشت. وها هي تقطع جسر السياسية، هذا الجسر الذي يمثل مفاصل حيوية في تاريخ الثورة الديرية ولحظات تحريره مطبوعة في ذاكرة الكثيرين.
لا أدري لماذا رأيت شريط التحرير أمامي عندما كانت السيارة تعبره. ذكريات كثيرة مرت بخاطري وأنا في السيارة. لم يعدني إلى الواقع إلّا أول حاجز للدواعش، ومعه كاد قلبي أن يقع بين قدميّ. ولكن مررنا بسلام وهكذا حاجزاً تلو الآخر. يوقفوننا ويأخذون الجوالات والهويات نعيش القلق ويعيدونها.
وأخيراً وصلنا للحاجز الأخير في ريف حلب. أنزلوا الركاب جميعاً وذهبوا بالرجال إلى المخفر. بينما النساء إلى بيت أحد قادة التنظيم هناك. واتضح لنا بعد ذلك أن زوجته هي من كانت تقوم بتفتيش النساء المسافرات. دخلنا المنزل وبدأت تلك السيدة الفظّة بتفتيش الأمتعة وكذلك المسافرات.
حقيقة الأمر أني لاحظت أنها سيدة متذبذبة بسلوكها، وربما بمشاعرها. فهي تارة لطيفة ومبتسمة وتارة عابسة ومتجهمة. لم أستطع أن أتبين أيهما وجهها الحقيقي، وأيهما القناع. ولكن قد يبدو هذا غير مهم لأحد لأنني وباقي المسافرات لم نكن مرتاحات في التسعين دقيقة التي قضيناها في ذاك البيت البائس وكنا نشعر ببطء الوقت وثقله .
اثنان فقط كانا مستمتعين بتلك الدقائق الثقيلة. طفلان الأول ابن إحدى المسافرات، وبنت صاحبة المنزل الداعشية. أجل لقد ضحكا ولعبا وكأنهما يعرفان بعضهما من قبل . يبدو أن الأطفال لا يعبأون بقلقنا ومشاعرنا السلبية نحن الكبار.
المهم في الأمر أن التسعين دقيقة مضت وخرجنا من البيت المشؤوم متجهات نحو السيارة. وما إن وصلنا حتى أقبل جمع الرجال من المخفر، الذي صار اسمه دار الحسبة يحملون معهم الجوالات والهويات الشخصية الخاصة بهم وبأسرهم.
اقترب الجميع من الجميع يسأل ويسلم ويضحك، وكأنهم قد افترقوا منذ زمن طويل وليس ساعة ونصف فقط. ولكنها كانت بمثابة نصر كبير أن قد زال عنا خطر الدواعش. حدث كل هذا بدقائق وربما ثواني وبدأت الناس تصعد إلى السيارة.
ولكن أين غزوان، أين أخي؟ اقترب مني أحد الأصدقاء ليعطيني الهوية والجوال ويقول أن قد أرسلها معي أخوك الذي ظل محتجزاً عندهم. عندما سألته عن السبب قال: لا أعرف ولا أحد غيري من الواقفين يعرف. فقط سمحوا له بالتحدث معي ليعطيني الهوية والجوال لأوصلهما إليك. وطلب مني أن أخبرك أن تذهبي مع الرحلة إذا مشت قبل عودته.
لا أعرف ولا أستطيع وصف تلك اللحظات التي بدأت بعدم الاستيعاب، فالقهر والغصة فالتفكير الجدّي ما أفعل؟ كيف أتصرف؟ بدأت أهدأ قليلاً وأستجمع أفكاري، وأحاول تخمين سبب احتجازه لأبني عليه قراري. وفكرت أنه قد تكون وصلتهم رسالة من دير الزور بأنه مطلوب. ولكن لماذا لم يوقفوني معه ؟! فأنا أعرف أن كلينا مطلوب لهم.
خطر لي أنهم سيعتقلونني في أي لحظة. ثم عدت لأقول لنفسي لو كان أمر الاعتقال من دير الزور لأخذوني مباشرة. ولما سمحوا له بأن يرسل الهوية والجوال. أفكار أخرى كثيرة كانت تأخذني يميناً ويساراً عن سبب الاعتقال وعن تصرفي الآن ولكنني حسمت أمري . أجل لقد قررت أن أبقى سأفترش عتبة الحسبة حتى أفهم الحكاية، وأعرف كيف أتصرف بعدها وأساعد أخي .
صعدت للسيارة وأخبرتهم أن تابعوا طريقكم لأنني سأنتظر أخي هنا. ارتفعت أصوات المسافرين من يعرفني ومن لا يعرفني. كلمات وأصوات متعاطفة وناصحة بعدم البقاء، ولكنني كنت قد حسمت أمري ونزلت من السيارة.
وإذ بغزوان يقبل من بعيد وما إن رآني حتى ركض نحوي. لا أبالغ إن قلت إن المفاجأة أذهلتني وما زلت أشعر بالذهول كلما تذكرت تلك اللحظة. لم أسأله عن أية تفاصيل وقتها. ولم يكن على لساني إلا كلمة الحمد.
صعد إلى السيارة وسط سلام حار من الركاب جميعاً ومشت بنا شيئاً فشيئاً بدأنا نصل إلى الشمال المحرر، ونولّي ظهورنا للدواعش. تاركين خلفنا الذكريات والأحلام والأهل والأصدقاء. وفينا عزم كبير على بداية جديدة.
سلام الغدير (35 عاماً) مدرّسة لغةعربية مهتمة بقضايا النساء ومستشارة جندرية، تكتب المدوّنات ومقالات الرأي في عدّة دوريات.