رحلة الى المنفى

"سميرة علوان (52 عاماً) من دير الزور. زوجها اعتقله النظام. مهندسة زراعية، تنقلت وعائلتها بين دير الزور ودمشق ولبنان وصولا إلى تركيا. وفيما هي تبحث عن فرصة عمل لم يحصل اطفالها على فرصة لاستكمال دراستهم الجامعيه كطلاب هندسة."

بعد فراقٍ دام لأكثر من ثلاث سنوات التقيتها صدفةً. كانت هي من أجمل ما صادفت خلال سنوات النزوح… كانت هي الصديقة الأقرب إلى قلبي وروحي.

بدأ اللقاء بالعناق والبكاء، وبتلك الأسئلة السريعة: كيف حالك؟ وكيف أولادك وأهلك وبيتك؟ وماذا عن زوجك؟ وكأننا كنا نسابق الدقائق للإطمئنان على بعضنا. وحين انتبهنا لهذا، قررنا التحدث بهدوء. جلسنا، وبدأت كل واحدة تروي أحداثاً لا بداية لها ولا نهاية. كنتُ أتابعها وهي تتحدث ودموعها تشاركها الحديث.

قالت: “حين وصلنا إلى شمال حلب بعد رحلة شاقة استنزفت مالنا وأجسادنا. أحسسنا بشيء من الراحة والسكينة العميقة، التي تلاشت بسرعة” .
سألتها: “لماذا”؟
تناولت من يدي فنجان القهوة الذي أعددته وأنا استمع اليها، ثم نظرت اليَّ وهي تردد: “هكذا حال النازحين يا صديقتي”.

تابعت حديثها قائلةً: “كان أبنائي الأربعة يتحدثون عن أمل غامض سيحدث قريباً. سمعتهم يقولون لبعضهم أن محنة القصف والقتل والاعتقال صارت جزءًا من الماضي، لكنني كنت مشغولة كأم. بالحصول على خيمة و مواد إغاثة وما يلزم من مواد تموينية، كانت الخيمة أهم من أيِّ شيئٍ آخر. فهي التي تلملمنا في نومنا وتسترنا في نهارنا، وتحمينا من البرد ومن عيون الآخرين.

وقفنا في طابور طويل ننتظر دورنا في توزيع المعونات والخيم. قلت لابنتي: لن نبقى هنا طويلاً، بل سنحاول أن نعبر الحدود إلى تركيا كغيرنا. وهناك سيكون لدينا بيت صغير ومدرسة تذهبون إليها. ردّت ابنتي الكبرى قائلة: المهم أننا الآن وفي هذا المخيم نعيش بأمان يا أماه. ثم سألت ذاك السؤال الذي له وقع الرصاص: هل سيلحق بنا أبي ذات يوم؟

كان سؤال ابنتي كافٍ لشطري إلى أجزاء كثيرة، فقد أيقظ هذا السؤال في ذهني كل الأحاسيس التي تعتري امرأة فقدت زوجها ووالد أطفالها مما جعلها مضطرة أن تحمل على كاهلها وبآنٍ واحد مهام الأب والأم.

قلت لابنتي والحزن يعتصرني: “أعتقد أن والدك سيبقى هناك طويلاً، فالتحقيق قد يستمر شهوراً بسبب عدد المعتقلين الكبير…” وحين رأيتُ الدموع في عينيها، استدركت الأمر وقلت لها: “لكنني أعتقد أنه في العام القادم سيكون معنا وبيننا”. كنت أقول ذلك لأزرع الأمل في ذهن ابنتي التي لم يتجاوز عمرها 12 عاماً .. لكنها ردّت بحزم لم اتوقعه وقالت: “بابا لن يعود قريباً يا أمي .. هذا مايحدثني به قلبي”.

أشحت عنها لأخفي عنها دموع الألم واليأس. بعدها عدتُ أنظر اليها وأنا أرسم على وجهي ابتسامة كاذبة قائلة: “سيعود، سيعود بإذن الله”. في هذه اللحظة كان ولداي يتناقشان بضرورة نيل الثانوية والوصول إلى الجامعة. وكنت و أنا أنتظر دوري في الحصول على المعونات أقول لنفسي، الحمد لله على كل شيء فالأولاد لا يزالون يحملون في ذواتهم إرادة الحياة.

نصبنا الخيمة بشكل جيد، وساعدنا في تثبيتها آخرون ممن سبقونا إلى هذا المخيم من النازحين. ثم قمنا بفرش الخيمة وركنا الأكياس التي تحتوي ثيابنا في أبعد زاوية في الخيمة. كانت مشاعرنا ضائعة بين أمرين. أحدهما غبطة من الأمان، والآخر خوف من المجهول.

هنا لا طائرات ترمينا بحمم الموت، ولا أحد يقصفنا بمدفعيته أو بدباباته. مما جعل شيئاً من الأمان يتغلغل إلى أنفسنا، بالمقابل كان هناك ما يزرع فينا رعباً وخوفاً من نوع أخر، هو الإحساس بالعوز والبؤس، فالعيش في هكذا مخيم ليس بأفضل حال من الناحية الصحية والمعيشية، من عيشنا حين كنا في ذلك الحصار اللعين الذي فرضه نظام الأسد علينا.
المخيم يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.. والناس هنا يعيشون الحرمان بكل أشكاله، حتى الأطفال حرموا من أبسط حقوق الحياة. فقد حرموا من حقهم في التعليم وأصبحوا أطفالاً مشردين بلا هوية، أطفالاً يرتدون الملابس الصيفية في فصل الشتاء، وغالبيتهم قد أصبحوا أطفال شوارع.

أما الكبار فقد رسمت التجاعيد على وجوههم الكثير من الصور. هي صور الألم وصور القهر وصور الخوف. رسمت صوراً أخرى كصور الاستسلام وصور النزوح القسري وتناقضات وهموم الحياة ومآسيها. كل هذه الصور كانت واضحة في نظراتهم وعلى وجوههم.

لقد أصبتُ بالذهول حين رأيت كل هذا، وشعرتُ بقشعريرة سرت في جسدي البارد فعدتُ إلى الخيمة التي كانت أشبه بزنزانة، ننغلق فيها على أرواحنا فتجعلنا نحسُّ بالتغير الذي طرأ على حياتنا، حتى غدونا مجرد نازحين يطاردهم الخوف من المجهول، ويفتك بهم برد الشتاء وحر الصيف. وبالرغم من كل هذه المشاعر بقي هاجس عودة زوجي من المعتقل هو الأمر الذي يمنح الروح شيئاً اسمه الأمل، كنت أهمس لذاتي: هل حقاً سيعود من معتقله و يقوم بدوره كأب و كزوج؟

تمدّد كل واحد منا على فراشه، وأحكمنا الأغطية على أجسادنا جيداً خشية البرد في هذا الشمال البارد. كنا في أواخر الخريف والبرد القادم يغدو هاجس جميع من يعيش في هذه الخيام.

مرّ الليل عليَّ ثقيلاً بعد أن نام الأولاد، وبقيتُ أنا وهواجس الخوف والقلق بلا نوم. حاربتُ أفكاري لاتخلص منها وأغط في النوم، لكنني فشلت، فقد أدركت أن القادم سيْ لامحالة، فقلبي لا يكذب بما يحدثني… تسللتُ إلى الخارج كمحاولة غير مقصودة عسى أن أجد من يُطمئنُ قلبي. نظرت في كل الاتجاهات. لكنني لم أجد أحداً أتحدثُ إليه، كان المخيم هادئاً، لا أصوات آدمية ولا نباح كلاب. ولا شيء من صخب الحياة.

عدتُ إلى خيمتي ولا أعرف كيف سرقني النوم من هواجسي فغفوت، حتى استيقظتُ على يد ابنتي تهزّ كتفي وتقول: “ماما، ماما استيقظي فالماء يتساقط علينا من سقف الخيمة”. استيقظت خائفة وأنا اسمع صوت قطرات المطر وهي ترتطم بسطح خيمتنا وبأسطح بقية الخيام.
رأيت القطرات تتساقط علينا من سقف الخيمة، كانت هذه القطرات تُبلّلنا و تُبلّل فرش نومنا. نظرنا في وجوه بعضنا فشعرنا بعجزنا حيال ما يحدث، فالمطر خارج الخيمة شديد الهطول، وفي داخلها نخاف من تلك القطرات القلية أن تزداد فنتبلل ويتبلل كل شيء. أيقنتُ حينئذ أن الأمان لايزال بعيداً جداً والقادم يبدو مرعباً. نظرتُ إلى أولادي فرأيت في عيونهم نفس المشاعر. حينها تمتمتُ بصوت مسموع: “هذا حال النازحين والحمدلله على كل حال”.

نعم هذه ازمة نازحي سوريا تتواصل فصولاً وأعواماً. حكايا تعايش، الواقع. هي تأريخ الحاضر الجلي للمستقبل الغامض.

سميرة علوان (52 عاماً) من دير الزور. زوجها اعتقله النظام. مهندسة زراعية، تنقلت وعائلتها بين دير الزور ودمشق ولبنان وصولا إلى تركيا. وفيما هي تبحث عن فرصة عمل لم يحصل اطفالها على فرصة لاستكمال دراستهم الجامعيه كطلاب هندسة.