حمص لا تودّع ثوّارها…
مشاركة النساء في مظاهرة تطالب فصائل الجيش السوري بالتوحد. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"عدنا جميعاً ولم يعد علاء. لكنّ صوت هتافاته باقية"
18 نيسان/أبريل 2011، لم يكن يوماً عابراً في ذاكرة أهل حمص. كانت المدينة تبدو وكأنها تعيش يوم قيامتها. عمّت المظاهرات في غالبية أحيائها، وتكلمت الجدران بلسان بخاخات طلاء الجدران: “بدنا حرية”.
في اليوم التالي وكعادتي، خرجتُ في الصباح إلى عملي وسط المدينة. كنتُ أعمل في مركزٍ طبي يطل على ساحة الساعة القديمة.
علمتُ منذُ المساء، أنه سيخرج تشييع لسبعة من شهداء حي باب السباع… وكانوا قد قضوا أثناء المظاهرات، بعدما أطلقت عليهم قوات النظام الرصاص الحي، وحرمت أُمهاتهم منهم.
الألم والحزن باديان على وجوه الناس… موكب التشييع يتجه إلى مقبرة الكتيب. حشود تتدفق وراء بعضها البعض، وهتافات تعلو: “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”. من هول المشهد، شُلّت حركة حي الحميدية…
كنت أُشاهد ما يحدث، كتمتُ شعوري، ففي جانبي تقف زميلتي في العمل، وهي مؤيدة لأفعال (الرئيس السوري) بشار الأسد ونظامه، وتنقم على المتظاهرين! هي تقول عن الشهداء: “لا أحزن عليهم فهذا جزاءهم، لأنهم خربوا البلد”!
خفتُ أن أقول لها شيئاً، فأضطرُ لصفعها، وأفضح أمري أني مؤيدة للثورة، فأدخل في دهاليز الإعتقال!
عدتُ إلى غرفة تصوير الأشعة وفتحت حساب الفيس بوك من الموبايل، فوجدتُ أنّ صديقتي كانت قد أرسلت لي لتُخبرني، عن اعتصام في ساحة الساعة بعدَ التشييع.
هذا الخبر جعلني أشعر وكأني شربتُ جرعةَ أمل. تدبّرت حجة للخروج من المركز قبل انتهاء الدوام، وذهبتُ مشياً إلى الساحة. كان قلبي يخفق خشية أن يكتشف أحدٌ أمري، كنتُ أشعر وكأني مُراقبة!
أنفاس زميلتي القبيحة، تلك المؤيدة لبشار لا تُفارقني! كنتُ أشتم رائحتها الكريهة… هوسٌ يُسببهُ لك شخص مؤيد! تشعر وكأنهُ يُريد تسليمك لأجهزة الأمن، لمجرد التعبير عن رأيك! لكنّ كل هذا كان مجرد خوف… أدركتُ ذلك.
في ساحة الساعة، التقيتُ بأصدقائي، وبدأ المتظاهرون بالإنضمام… ازدادت الجموع بشكل سريع، وكأنّ الناس تنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
الهتافات وأعلام الثورة تعلو… إلى أن اعتلى الشيخ محمود دالاتي المنبر… فهو أحد أبرز رجال الدين في حمص، الذين انضمّوا لصفوف المتظاهرين.
ألقى الشيخ خطاباً يطلب فيه من الشباب الإلتزام بسلميّة الثورة، وقال: “نحنُ هنا للمطالبة بحقوقنا، ولا نريد إيذاء أي أحد من الطوائف الأخرى”.
كان ذلك مع وقت العصر… وما إن حلَّ موعد صلاة المغرب، حتى تجمّعت قوات نظام الأسد على بعدِ أمتارٍ من المتظاهرين الذي همّوا للصلاة. تمركز رجال الأمن في مبنى قيادة الشرطة…
حينها طلب الشبّان من النساء العودة إلى المنازل. كنتُ من بين المستجيبات للدعوة… وكان لدي مهمّة وهي الإسراع برفع مقاطع فيديو الإعتصام، عبر الإنترنت.
شعور الخوف لم يكن يفارقني… أنفاسُ زميلتي تُلاحقني ونظراتها المشؤومة معي…
عرش الطغاة تزلزله وحدة الصف، وكنا كذلك في الإعتصام. كان هناك التنظيم وتقديم وجبات الطعام والمياه للمتظاهرين…
عدتُ إلى المنزل ورفعت مقاطع الفيديو… ومضى الوقت بترقُّب، فالإعتصام مستمر والشبّان صدورهم عارية!
شارفت الساعة على الثانية من بعد منتصف الليل، حينها انقلبت المدينة رأساً على عقب! ولم نعد نسمع سوى صوت الرصاص بشكلٍ كثيف.
أعلنت المساجد عن إصابات في صفوف المعتصمين الذين بقوا في الساحة، من بينهم الشيخ سهل جنيد والشيخ محمود دالاتي.
علاء إبن جيراننا كان من بين المعتصمين… وجارتنا أم علاء قد أكل وجهها الخوف عليه! مضى الليل، ما بين خوف أم علاء، والدراجات النارية التي تطوف في أحياء المدينة وتحث على الجهاد ضد النظام!
الحيٌ ملاصق لحينا، سكانه من الطائفة العلوية، كان أهله يقومون بسد مداخله بالآليات وبراميل القمامة خوفاً من شيء مُحتمل!
كان جارنا أبو مالك، يقول: “سدّوا مداخل الحي، فقد يأتي النظام بشخص ليفجّر نفسه فيه، ويقول أنّ الثوّار يستهدفون العلويين”!
أدرينالين الخوف ارتفعَ لدي… عكس شبكة الأنترنت التي ضعفت جداً، وانقطعت الإتصالات، وبتنا منقطعين عن العالم، لا نعلم ماذا يحدث!
جاءَ الصباح ركبت أم علاء وزوجها السيارة للبحث عن علاء، الذي لا أخبار عنهُ! وعجزتُ عن التواصل بأي من رفاقنا للإطمئنان عليهم…
حين خرج أبو علاء وأم علاء للبحث عن ابنهما، رميتُ بنفسي في السيارة معهما، وأطحتُ بمخاوف والدتي! كان وفاءً مني أن أذهب للبحث عن علاء، فقبلَ ساعات كان رفيقي في الهتاف للحرية… السكون يعم المدينة… ما فرضَ سكوناً حتى على أم علاء الخائفة على ولدها.
“ممنوع لأي أحد أن يعبر إلى مركز المدينة”… هذا ما قاله لنا الشبّيحة بلباسٍ مدني، وهم يحملون السلاح. منعونا من التقدُّم، فالطرقات مقطوعة، وهناك حظر تجوّل غير مُعلن…
حينُ انقطع الأمل بالتقدم، علا صراخ أم علاء: “أين أنت يا ولدي؟”.
كنتُ أجلس في السيارة، خلف أبو علاء، فاقترحتُ عليه العودة إلى المنزل، كي أُعطي أم علاء حقنة مهدئة! كانت الحقنة ضرورية!
بعدَ أن عدنا، وكنا قد مررنا في ذات السكون والترقّب اللذين رافقانا في رحلة البحث… أتى جمعٌ إلى الحي من الأصدقاء وكان معهم علاء شهيداً جميلاً…
عدنا جميعاً ولم يعد علاء. لكنّ صوت هتافاته باقية… فحمص لا تودّع ثوّارها، هم باقون فيها، بوجدانها ووجداننا.
حنان الطويل (30 عاماً) من حمص، مقيمة في ريف القنيطرة. درست معهد فني أشعة وترجمة.