حكاية سورية مع فصل الشتاء
إمرأة في ريف إدلب تحمل طفلها
". وضعي وحالتي مهما كانت سيئة لن تكون كحالة ملايين المشردين النازحين في تلك المخيمات، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. البرد والصقيع ينهش من أجساد الأطفال هناك، والموت بردا يقضي على كثيرين منهم. "
لم أتخيل ولو للحظة أو في يوم من الأيام أن تصل بنا الظروف والأحوال والمتغيرات إلى درجة تصبح الأشياء المسلَم بها صعبة المنال. أدركت اليوم وأدركت معي آلاف الأسر السورية تلك الحقيقة المُرًة.
بعد ان كانت تلك المخاوف والهواجس بعيدة كل البعد أصبحت فجأة جزءا لا يتجزأ من معاناة تُرسم تفاصيلها في حياة السوريين . ثلاث سنوات انقضت وأنا أعمل موظفة في مركز نسائي ، لم أعرف فيه الملل أو اليأس رغم كل المآسي التي انعكست علينا بصورة مباشرة خلال سنوات الحرب الفظيعة .
بالطبع وكسيدة سورية متزوجة كانت حاجات البيت ولوازمه تشكًل ضغطاً وحملاً ثقيلاً تضاف إلى كوارث الحرب. الأمن والأمان معدومان، والوضع المعيشي يزداد سوءًا. ولكن كل هذا في كفًة، واستقبال فصل الشتاء ولوازمه في كفًة أخرى.
زوجي موظف عادي، ومرتًبه بالكاد يكفينا لنصف الشهر. لذلك قررنا أن نواجه معضلة تأمين مادة ” المازوت الضرورية والتي لا غنى عنها في ظل أجواء البرد القارس.
بدأت رحلة معاناتنا مع “صوبيا البيت” أو المدفأة التي مضى عليها 3 سنوات، فحيازة أو شراء مدفأة جديدة يتطلب تأمين مبلغ من المال قدره 20 ألف ليرة سورية. وهذا أمر خارج عن استطاعتنا وقدرتنا.
لذلك بدأ زوجي بإجراء أولى التعديلات على المدفأة عندما أخذها إلى أحد الحدًادين في القرية الذي بدًل لها الفرن وأضاف عليها رفًا في وسطها لطهي الطعام وبالتالي توفير كبير لاسطوانة الغاز التي وصل أيضا سعرها الى 7 آلاف ليرة سورية.
عندما قيل أنً الحاجة أم الاختراع، تلك حقيقة لاشك فيها. فقد اخترع مهندس متقاعد في القرية طريقة لتسخين الماء عن طريق المدفاة، وهذا ما فعله زوجي تماماً بعد أن أدخل كل تلك التعديلات على المدفأة.
ويبقى الأهم تأمين مادة المازوت. وهنا لا بد من اقتراض بعض المال من بعض الأقارب لشراء برميل من المازوت. لم أتذكر طيلة سنوات الحرب التي مرًت علينا أن شعرت ولو للحظة بالدفء الحقيقي، فتشغيل المدفأة يكون بشكل صارم ومحدد وبالطبع لا يكون إلا في ساعات معدودة من البرد والصقيع.
وما زاد الطين بلًة أن طفلتي الصغيرة لا تحتمل مثل الكبار تدني درجة الحرارة ، فكانت لا تحصل على الدفء المطلوب والواجب توفيره لها. لذلك عوضت لها بكثرة الملابس الثقيلة. مع الحرص دائما بان تكون طيلة اليوم في البيت مغطاة بأغطية سميكة.
جارتنا أم وليد اعتادت هي وزوجها في كل فصل شتاء على التدفئة بطريقتهم الخاصة، حيث يذهبان كل صباح الى أحد مكبًات النفايات الرئيسية في اللقرية. وهناك يتعاون الزوجان على فرز المواد البلاستيكية والنايلون، ومن ثم يعودان بعدها بتلك المواد الى منزلهما.
عندما يشغل جارنا أبو وليد مدفأته، الناظر إليها من بعيد يحسبها كمحطة لتكرير النفط، فرائحة الدخان تملأ المكان. كانت رائحة لا تشبه رائحة الدخان العادي، سببت لهما ولابنهما وليد حالة مرضية تشبه حالات الربو المزمن.
رغم كل ما أنا فيه كنت انظر الى حالة النازحين المشردين، فأحمد الله كثيراً. وضعي وحالتي مهما كانت سيئة لن تكون كحالة ملايين المشردين النازحين في تلك المخيمات، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. البرد والصقيع ينهش من أجساد الأطفال هناك، والموت بردا يقضي على كثيرين منهم.
هذه حكايتي وروايتي مع فصل الشتاء، ولكن في الحقيقة هي ليست حكاية للتسلية أو قصة قبل النوم كما كنا ننام على حكايات جدتي. انها قصة حقيقية من واقع سوري أليم. نحن السوريون أبطالها.
وبكل صراحة أقولها اليوم وغداً: لقد تخلًى عنا القريب والبعيد، وتُركنا وحدنا في الميدان نواجه مصيراً مجهولاً. لا مساعدات تصل إلينا، وعدم الاكتراث بمعاناتنا هي الصورة الأكثر وضوحاً. ولم يبق لنا غير الله …
عائشة السلطان (27 عاماً) من ريف ادلب الجنوبي. خريجة معهد إدارة أعمال من جامعة حلب متزوجة وأم لطفلة صغيرة .