تركت أهلي وأحلم بالعودة

امرأة تتسوق الخضار وتحمل أكياس الخضار كغيرها من النساء السوريات بدلا من الرجل كون زوجها اما شهيدا او في عمله ليؤمن قوت عياله - - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

امرأة تتسوق الخضار وتحمل أكياس الخضار كغيرها من النساء السوريات بدلا من الرجل كون زوجها اما شهيدا او في عمله ليؤمن قوت عياله - - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

"كنت أشعر بداخلي أني ما إن أخرج من بلدي لن أعود إليها"

ريم سعيد

يوم الإثنين 13 آب/أغسطس 2012. خرجت مع زوجي وإبنتي التي لم تكن تتجاوز حينها الخامسة من عمرها، كنا في طريقنا من ريف إدلب الجنوبي إلى تركيا، بعد محاولة هرب فاشلة عبر الحدود سبقتها بيومين.

نقلنا والدي إلى المكان  الذي إنطلقت منه رحلتنا. كان يهدئ من روعي بكلماته عندما رآني أبكي فراقه وفراق أهلي بحرقة. أتذكر كلماته،التي لا زالت في أذني إلى اليوم، كان يقول بلهجتنا: “الأمور خالصة يا بنتي. كلها 15 يوم وبترجعي، إعتبري حالك طالعة سياحة”.

أبي كان يعرف أنها لم تكن “خالصة” مثلما يقول. ولكنها كلمات ربما تواسيني وتهدئ ألم فراقهم. كنت أراه كيف يشيح بوجهه عني… كيف يخفي دموعه، ولكنه تمالك نفسه حتى لا أضعف وأنهار اكثر. كان فراقهم بالنسبة لي كالموت. إلا أن زوجي أصر على الخروج بإبنتنا الوحيدة، واللحاق بأهله الذين سبقونا بأشهر.

كان إتخاذ القرار صعباً جداً بالنسبة لي، إذ أني سأترك أهلي تحت قصف الطائرات، أعرف أني لن أجد الراحة حتى لو إبتعدت بإبنتي التي كان الحفاظ على حياتها هو أكبر همي، لكن لم تكن محبة إبنتي تفوق محبة أهلي بشيء أبداً. كنت واقعة بين أمرين، الإختيار بينهما صعب للغاية، وفعلاً كما يقال أحلاهما مر!

كيف سأنام بهدوء وأهلي في الجحيم. نعم تحولت حياتهم جحيماً، كيف سأشعر بالأمان وهم تحت نيران القذائف والصواريخ، التي حفظنا أسماءها وأسماء الطائرات من صوتها. أشياء لم نكن نتوقع أن نعيشها أبداً، كنا ننتظر الموت في كل لحظه، نتوقع أن تأتي القذيفه وتدمر المنزل فوق رؤوسنا ونحنا نائمين.

كنت أتخيل ماذا لو حصلت لأهلي هذه الأشياء، لا سمح الله وأنا بعيدة عنهم!؟ أسئلة وأسئلة كانت تحاصرني. كنت قد ألغيت رحلة سفر إلى تركيا أيضاً قبل الرحلة الفاشلة بأيام. لأنه لم يكن هناك مكان فارغٌ إلا لشخص واحد في السيارة التي ستقلنا، ففضلت أن يذهب أخي الكبير، ونلحق نحن به، و يكون طريق التهريب آمناً.

كان كل همي إخراج أخي، لأنه كان منشقاً عن عن صفوف جيش النظام. كان الخطر يلاحقه، كنا خائفين عليه جداً. لم يكن اخراج أخي من بطش أتباع النظام السبب الوحيد لعدم سفري. بل كانت حجة لي لتأجيل السفر. كنت أريد كسب أكبر وقتٍ ممكن مع أهلي.

لم يكن هذا الوقت طويلاً، إذ أن زوجي بعد أيام قليلة أخبرني أن أجهز نفسي للسفر! وجد رحلة ذاهبة إلى تركيا في الصباح، صدمني الخبر بشدة. بهذه السرعة؟ غداً؟ نفذت أسباب التأجيل لدي. لم أجد مفراً، لم أستطع إقناعه أن يمحو هذه الفكرة من رأسه، لم أره يوماً بهذا الإصرار على شيء. لم يكن يوفر لحظة واحدة للبحث عن طريق للسفر، والخروج من سوريا.

أذكر تلك الليلة جيداً. لم أنم فيها دقيقة واحدة. حاصرتني الأفكار، والأسئلة، كيف سيكون الطريق؟ كم تكون المسافه؟ كانت المسافة تهمني، لأني أصاب بدوار مجرد أن أفكر في السفر. كيف إن كان هذا السفر قصرياً ودون نوم أو راحة؟ كيف سأعيش ببلد غريب، وحيدة؟ كيف سأتأقلم مع الناس والمجتمع هناك؟ كيف سأربي إبنتي في بيئة لا أعلم شيئاً عنها؟

كنت خائفة جداً من هذا المجهول الذي ينتظرني، عدا أنني كنت أشعر بداخلي أني ما إن أخرج من بلدي لن أعود إليها. لن أرى أهلي، أو قريتي مرةً ثانية!

شعرتُ بدوارٍ بسبب هذه الأفكار فقررت أن أصعد إلى سطح المنزل الذي كنا نقيم فيه أنا وأهلي في إحدى قرى ريف إدلب الجنوبي، بعد أن تركنا منزلنا في ريف حماة. كانت الساعة حوالي الثالثة فجراً، كان الجو مائلاً للبرودة قليلاً. لكن لم يهمني الأمر. جلست متأملة منظر البيوت التي بدأت تتسلل الإنارة إليها لتجهيز السحور الرمضاني.

لم تكن غالبية الناس تنام في الليالي الرمضانية، كانت السهرات تستمر حتى ساعة السحور. جلست على حافة السطح وعدت لأفكاري. كيف سأودع هذه الأرض؟ وهذه الأجواء؟ بدأت أصوات الرصاص تعلو في القرى المجاورة، كنت أرى لمعانها من مكان إنطلاقتها إلى مكان وقوعها. حتى هذا المنظر المخيف أعجبني يومها. لم أشعر بالخوف من أصواتها، ولم أخف أن يصيبني شيء من شظاياها. كان كل ما يسيطر على رأسي هو فكرة واحدة، السفر!

بدأ صوت المآذن يرتفع بأن وقت السحور قد حان. نزلت لتحضير مائدة السحور الوداعية بالنسبة لي. وبعد أن إنتهيت من التحضير بدأت بإيقاظهم. تظاهرت بالقوة أمامهم، لكني لم أستطع تناول أي لقمة من الطعام. كنت أشعر بتشنجٍ قوي في معدتي بسبب القلق والتوتر وقلة النوم والخوف، لأن طرق التهريب محفوفة بالخطر.

إكتفيت بشرب الماء. كنت عازمة على الصيام، رغم تحذيرات أهلي، بأني لن أحتمل عناء السفر والصيام، خصوصاً في هذا الحر. أخبرتهم أني حتى لو لم أصم، فإني لن أستطيع تناول أي طعام خوفاً من التقيؤ في السفر. أهلي أيضاً لم يكن حالهم أفضل من حالي بكثير. كان سحورهم على غير المعتاد، لقيمات صغيرة يسدون بها جوع نهارٍ كامل.

بعد إنتهائنا من السحور، وإقامة صلاة الفجر، جلست وأهلي، وبدأ الكل بإقناعي أنه الحل الأنسب، حرصاً على حياتي وحياة إبنتي، وإنهاءً للمشاكل التي لم تكن تنتهي مع زوجي بسبب رفضي الخروج معه، لكنهم بنفس الوقت يحاولون إقناعي بأن الحال لن يدوم على ما هو عليه….

ريم سعيد (37 عاماً) من حماه. متزوجة، وأم لطفلة وحيدة. ربة منزل، مقيمة في تركيا. تأمل بأن تعود قريبا إلى سوريا.