بين حمص وحلب
غرفة انتظار موعد الأطباء في قسم العيادات الداخلية في مشفى القدس بحلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
مدينتي الجميلة حمص، عاصمة الثورة السوريّة، مدينة الرقي والهدوء. يتّصف أهل مدينتي بالطيبة، فيها عشت أجمل أيّامي وذكرياتي. ليتها تعود تلك الأيام، وليتني أعود…
18 نيسان/أبريل 2011، يومٌ يتردّد في ذاكرتي دومًا … يوم مجزرة اعتصام ساعة حمص … عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل تحديدًا … بدأت صيحات التكبير، وأصوات الرصاص تملأ سماء المدينة … تلك الليلة التي تغيّر فيها لون السماء. أبي كان خارج البلاد، وعودته باتت قريبة. كان جوّاله مغلقاً… بخوف ترتجف أضلاعي وأتساءل: “هل سيعود أبي بخير؟!” أتنقّل ما بين شرفة البيت وغرفتي، أنتظر عودة أبي، اتابع نشرات الأخبار، أبحث عن خبر ما يجري في مدينتي الهادئة.
أخيرًا وصل أبي بخير… أخبرنا عن المجزرة التي ارتكبها الأمن وشبيحة النظام بحقّ المعتصمين العزّل الذين طالبوا ببعضٍ من حقوقهم المسلوبة عند ساعة حمص الواقعة في وسط المدينة. تخيّلت ذاك المشهد، الجرحى في الشوارع، الناس تحاول مساعدتهم. النساء والأطفال في حالة رعب حقيقيّة، ليلة دامية. وأخبرني أبّي أيضًا أنّ من لم تصبه الرصاصة الغادرة ولم يستطع الإختباء وإن كان جريحًا سيتم إعتقاله حتمًا.
بدأتُ بعدها أكتشف الحقيقة التي حاولت مدرّستي جاهدةً تزييفها لطلابها. الثانوية التي سعت لرفع شعارات التأييد لنظام القتل بمسيراتها، ورغم أنّني تفوّقت فيها وعشت معها أجمل أيام دراستي وكانت بالنسبة لي مثال للمهنيّة التعليميّة والاهتمام بالطالب إلا أنّ النزعة الطائفيّة أفقدتها مصداقيّتها في رؤية مايجري. كنت حينها فتاة السادسة عشر عامًا.
قرر والدي العودة إلى مدينة حلب، مسقط رأسنا ومجمع أقاربنا. وذلك في منتصف شهر رمضان الذي صادف في شهر آب/اغسطس عام 2011 . جاء القرر بعد أن اشتدّ الخناق على مدينتنا، وتمركزت الدبابات في وسطها لتخمد بنيرانها لهيب الثورة الذي اشتعل بين أبناء حمص. لهيب الثورة الذي جعل منها عاصمةً لثورة الكرامة والحرية. ولكن هيهات هيهات. كنت يوميًا حينما أذهب إلى معهدي، أشاهد على رصيف دوّار البيّاضة تلك الدبّابة اللعينة، والشبيحة من حولها يتباهون بسلاحهم أمام شعبٍ أعزل واجههم بصدوره العارية. يحاولون إرهاب وإدخال الرعب في قلوب هذا الشعب بمنظرهم ذاك. ولكن أنّى لشعب مؤمن صادق أراد الحريّة أن يستسلم حتى ينال ما أراد.
وفي يوم ما إن أذكره حتى تبدأ دموعي لتحكي عنّي ما عانيته. أبي وإخوتي في سفرهم المعتاد، ولم يكن في البيت سواي أنا وأمي وأخي الصغير. في لحظةٍ غير متوقعة وفي وقت متأخر من الليل، بدأ الرصاص ينهمر على البيت من كل جانب وكأنها أصوات اشتباكات. كنّا نسكن في حيّ يجمع عدة طوائف إنه حي السبيل. بيتنا في الطابق الأول يطلّ على أربعة شوارع. اختبأنا في زاوية صغيرة من زوايا المطبخ. لم أبالِ حينها بنيران الرصاص. بل كانت مخاوفي من هجوم المسلحيّن شبيحة النظام على بيتنا. كوننا وحدنا في الحي من أبناء طائفة مختلفة. أخفيت كلّ مخاوفي وتظاهرت بقوة، تعجّبت فيها من نفسي. جعلتني أشعر وكأنني الأم لأخي الصغير وأمي. أمي اتّصلت بأهلها تبكي، وكأنّها طفلة تخبرهم مايجري وتغص بكلماتها: “نحن رح نموت .. ماعاد تشوفونا”. طلبتُ منها أن تهدّئ من روعها لأجل أخي الصغير.
تحدّث معنا جيراننا وهم من أتبلع ديانة أخرى، من نافذة المطبخ وأخبرونا بأنّ الأمور ستكون بخير. ماجعلنا نشعر بشيءٍ من الإطمئنان.
أذكرحين اتّصل والدي وطلب منّا أن نجهّز أمتعتنا للسفر، والعودة إلى مدينة حلب، مقبرتي. نعم إنّ عودتي لها ورحيلي عن حمص كان أشبه بسكرات الموت تقتل داخلي كلّ أحلامي التي رسمتها في هذه المدينة.
توقّفت أصوات الرصاص، وعاد الهدوء تدريجيًا يسود المكان. وبدأت أمّي بالتحضير للسفر مع اقتراب موعد آذان الفجر. أمّا أنا وأخي وقتها لم نخرج من المطبخ. كنّا قد وضعنا فيه فراشًا للنوم، كونه المكان الوحيد الآمن الذي لايحتوي على نوافذ تطلّ على الشارع.
صباحًا وعند الساعة التاسعة حان موعد الرحيل. وقفتُ على نافذة الشارع أودّع الحيّ والبيت الذي قضيت فيه ثلاث سنوات. لكنّها كانت بالنسبة لي وكأنّها العمر بأكمله. الدموع تتساقط من عيني. بكاءٌ لم ينتهِ. هكذا مرّ اليوم عليّ.
انطلق باص السفر ليعلن موعد مفارقة الروح للجسد. الجميع سمع صوت أنيني. وفي وسط الطريق غفت عيناي لأجد نفسي بعدها في حلب عند أقاربي. وجهي مصفر. صيام وبكاء وقهر. ستّة أشهر وفي أيّام دراستي للثالث الثانوي قضيتها وأنا أعاني من مشاكل نفسية وجسدية لم أُشفَ منها إلى حين بدأت مشاركتي الفعليّة كناشطة في ما يخدم ثورتي. وانطلقت للمسير بركب الأحرار .
ليلى اسكيف (21 عاماً) عازبة. نازحة من حمص إلى حلب. سنة ثانية طالبة شريعة في جامعة حلب. تعمل في الإرشاد الإجتماعي والدعم النفسي...