الولادة في المغارة

ممرضة مناوبة في قسم الحضانات في احدى مشافي ريف ادلب تتفقد أحد الرضع- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

ممرضة مناوبة في قسم الحضانات في احدى مشافي ريف ادلب تتفقد أحد الرضع- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام

اقترب موعد الولادة… كنت أنتظرُ بفارغِ الصبر مجيءَ طفلي الأول. لم أكن خائفة من آلام الولادة، كما حال النساء في ولادتهن الأولى، فأنا بطبيعتي أُحبُّ الأطفال كثيراً وهذا ما يُزيلُ مني شعورَ الخوف…

كنتُ على الشرفة، وكانت الغيوم متقطعّة في السماء، ونسمات الهواء باردة للغاية… سمعت صوت انفجارات، لكنها كانت بعيدة نسبياً… كانت في إحدى القرى القريبة. خرجَ زوجي من الغرفة ووقفَ إلى جانبي… بعد أن كان يجلس مع أمه وأبيه.

تساءل زوجي: “أين هذا القصف؟!” قلتُ: “ربما الصوت قادم من جهة الغرب…”

ولم أكَد أُنهي عبارتي حتى سمعنا صوتَ صفيرِ قذيفةٍ تهوي باتجاهنا! أسرعنا أنا وزوجي بالدخول عن الشرفة، لكنني لم أكن أسرَع من القذيفة! انفجرت قبلَ دخولي، فسقطتُ أرضاً وأكملتُ طريقي إلى الغرفة زحفاً!

لقد سقطت القذيفة في حارتنا…

هرعنا انا وزوجي ووالدته ووالده إلى المغارة. كنا قد حفرناها واتخذناها ملجأً لنا في حالات القصف…
والمغارة لا تبعد سوى أمتارٍ قليلة عن المنزل… لكنني حسبتُ هذه الأمتار أميالاً!

صوت صفير قذيفةٍ أُخرى … لكن هذه المرة كنا قد أصبحنا داخل المغارة التي ارتجّت جوانبها، ومنت اجلس في إحداها! بدأتُ أشعرُ بآلمٍ خفيفٍ في بطني، ثم بدأ هذا الآلم يتزايدُ تدريجياً وينتقلُ إلى جهة الظهر… مع العلم أنّ موعد ولادتي قد اقترب…

والدة زوجي شعرتْ بأنّي لستُ على ما يُرام… فسألتني: “ما بكِ؟!” أخبرتُها ما يحصل لي…
ابتسمت قليلاً كي تطمئنني وقالت: “لا تخافي… لا يوجد ولادة، الوقتُ ما يزال مبكّراً، لكن ما يحصل معكِ الآن سببهُ الخوف”.
لكنّ الآلم صارَ لا يُطاق… إنه مخاض الولادة! بتُّ متأكدة الآن، أصابني المخاض قبل موعده بأيام… لكنهُ جاءَ وصارَ أمراً واقعاً!

أنا متأكّدة… أشعرُ بطفلي وكأنهُ يخرجُ من أحشائي! لكن في هذه الحالة، ما الحل؟ كيف ألد ولن أستطيعَ الخروج من المغارة؟! فربّما تسقط علينا قذيفة وأنا على الطريق، وليس بإمكاني الركض… وكان صوت تحليق الطائرات وغاراتها الوهمية يدب الرعب في قلوبنا جميعاً!
خرج زوجي مع أُمه تحت الخطر، ليُحضرا القابلة القانونية التي تسكن في طرف القرية… بعدما اقتنعت حماتي فعلاً أني أشعر بألم الولادة!

بقيتُ مع والد زوجي في المغارة لوحدنا، أنتظرهُما… كنتُ أُحاولُ إخفاءَ ألَمي خجلاً من عمّي، الذي كان كل الوقت يدعو لي بالخلاص…  لكن، كان ذلك لوقتٍ قصير جداً، فبعد ذلك لم أنجح بإخفاء ألَمي! فالألَم كان قد تجاوزَ درجاته!

جاءت قذيفة أُخرى وهزّت المغارة بعنف… القصف يدورُ من حولنا! وزوجي ووالدته قد تأخرا! الوضع في القرية يزدادُ سوءاً وألمي لا يُطاق!

بعدَ وقتٍ، أتيا برفقة القابلة التي كانت قد رفضت المجيء في بادئ الأمر ،خوفاً على حياتها من القصف الذي لا يرحم أحداً… لكنَّ حماتي استطاعت إقناعها، فلا حلَّ أمامنا إلا أن ألد في المغارة! خرج زوجي ووالده ووقفا بباب المغارة، وأنا في الداخل ألد…

نعم… ولادة في المغارة! سيأتي طفلي الأول الذي أنتظرهُ، في المغارة! فأيُّ حياةٍ هذه؟! وقبل أن يخرج طفلي إلى الحياة، سمعتُ صوت انفجارِ قذيفة، وكان الصوت قوي جداً…  لكني هذه المرة لم أكترث، فقد كانَ كلُّ همّي أن ألد وأنتهي من عذابي!

وأخيراً، سمعتُ صوتَ طفلي… لقد رزقنَي الله ذكراً، فلم أكن أعلم أثناء حملي إن كان ذكراً أو أنثى… فرحتْ حماتي لأنهُ ذكر… فهي ككل الناس في مجتمعي تقريباً، تسعد حين تنجب النساء الذكور.

قالت لي حماتي أنها ستنده لجدّه وأبيه، فهما ينتظران بفارغ الصبر. خرجتْ إلى باب المغارة ثم ّعادتْ فوراً… أُمرٌ عجيب، ما من أحدٍ في الخارج! راحت إلى المنزل… ما من أحدٍ هناك أيضاً! أين ذهبا؟ ماذا حصل لهما؟!

بعد حوالي النصف ساعة من الانتظار والترقُّب، جاءَ زوجي وهنأني بسلامتي دون أن يقول أي كلمة أُخرى! فقط قال: “الحمدُ لله لسلامتك”! وقد كان وجههُ حزيناً وعيناه حمراوان… كما لم يقترب من الطفل، ولم يسأل بماذا رُزقت…. أذكراً أو أُنثى!

حملتْ حماتي الطفل، وأعطتهُ لوالده وقالت: “لقد جاءكَ عبدو”! (عبدو هو الإسم الذي كنا قد اتفقنا على تسمية مولودنا به، إن كان ذكراً) هطلتْ دموع زوجي وهو يقول: “ليسَ عبدو… إنهُ ابراهيم”! ثمّ أخبرنا أنّ عمّه ابراهيم البالغ من العمر 40 عاماً قد توفيَ للتَو في آخر قذيفةٍ قد وقعت…

انهارت حماتي تماماً… وبكينا جميعاً… كان زوجي يحبُّ عمهُ ابراهيم حباً كبيراً، فهو أصغر أعمامه والأقرب لتفكيره…
وابراهيم، كان شخصاً طيباً صاحب خٌلق ودين، أبٌ لثمانية أطفال، أكبرهم عمرهُ 16 عاماً…

وسط كل هذا، حاولتُ أن أحبس دموعي وحضنتُ طفلي الذي كان يبكي، وكأنهُ يلومني لأني أنجبتهُ وكنتُ ووالده سبباً في قدومه إلى هذه الحياة!

اليوم… ها هو ابني ابراهيم يكبرُ أمامَ عينَي، وأخافُ عليه في كلِّ لحظة من القذائف والطيران…
فلسانُ حالي دوماً: “سامحني يا صغيري لأنّي أنجبتك وسطَ أصعب الظروف في تاريخ البشرية! وسطَ حربٍ لا تعرف الرحمة، وتنتقي ضحاياها من الأبرياء والمُستضعَفين”!
هذا ما أُردّدهُ كلّما نظرتُ بعينَي طفلي… هذا هو حالي وحال كل أُم سوريّة تعيشُ مع أطفالها نارَ الحرب ومرارتَها…

أمل الغد (29 عاماً) من بلدة حيش في ريف إدلب الجنوبي، متزوجة ولديها طفل. حاصلة على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة حلب، كانت تقيم مع زوجها في حلب ولكن بعد انشقاقه عن النظام عادت لتسكن في بلدته كفرسجنة.