القنّاص صاحب صوت الـ بُم بُم
نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب- تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"صرتُ أصرخ وسط الشارع: "أريدُ ملعقة"! انهمرت من النوافذ والشرفات ملاعقَ كثيرة، تناولتُ واحدة منها وقمنا بإدخالها في فمِ ابنتي وانقلبَ لسانها، مما سمحَ بمرور بعض الهواء إلى رئتيها"
في الثالث من نيسان/أبريل من العام 2013، كنتُ أُراقبُ السكّان الفارّين من المعارك في منطقة الشيخ مقصود حيث أعيش. هذا النزوح الرهيب في اليوم الثالث على دخول الجيش الحر إلى منطقتنا في مدينة حلب. ثلاثة أيام من المعارك العنيفة وتحوُّل الشارع الذي أسكنُ فيه لجبهةٍ عسكرية!
كنا نضع المولّد الكهربائي على شرفة المنزل. ولكننا خفنا من سقوط قذيفةٍ على الشرفة… قرّرتُ وزوجي أن ننقل المولّد إلى داخل المنزل كي لا يتسبّب بحريقٍ في حال وصلت إليه إحدى الشظايا المتطايرة أو طلقة رصاص طائشة.
أدخلنا المولّد إلى المنزل قبلَ أيام… لكننا تناسينا أبسط مقومات الأمان، أي عدم تشغيل المولّد داخل المنزل لأنه يسحب كامل الهواء وقد يتسبّب باختناقنا… خاصة أنهُ كان لدينا طفلتين، الكبيرة عمرها ثلاث سنوات والصغيرة، أقل من سنة.
بعدما أدخلنا المولّد إلى المنزل، أُصيبت ابنتي الصغرى بشيءٍ غريب… تحوّلت لورقةٍ صفراء شاحبة، ووجهٍ أزرقٍ… بلا أي استجابة لأي شيء من حولها!
وبدأت المعاناة… ركضنا بابنتي إلى الشارع علّنا نجد مَن يُسعفها، لنُصدَم بأنّ مشفى السلام، وهو المشفى الوحيد في المنطقة قد صارَ تحت نيران قنّاصي النظام. وبأنَّ جميع العاملين فيه قد فرّوا من اليوم الأول للمعارك!
ولأنَّ منطقة الشيخ مقصود، جغرافياً، عبارة عن تلة مرتفعة… فقد كانت مُحاصَرَة نارياً من جميع الجهات… وأيُّ خروجٍ منها سيُعرِّضُ حياتنا لخطرِ القنص.
في موجة الهستيريا التي أصابتني بسبب هذا الواقع المقرف، صارَ يُخالُ لي أنَّ هذا يعني فقدان ابنتي الغير قادرة على التنفُّس، وهي بحاجة ماسّة للأُوكسجين في مشفّى مجهَّز! أدركتُ ذلك جيداً، هي مُختنقة!
أنقذَني القدر بمرورِ صبية توقّفت أمامَ العدد الهائل من الناس الذينَ تجمهروا من حولنا… وكانت للصدفة، الممرضة الأخيرة التي بقيت من مشفى السلام، وكانت تنتظر والدها للمغادرة معهُ.
اقتربتْ من ابنتي وطلبت مني ملعقة… صرتُ أصرخ وسط الشارع: “أريدُ ملعقة”! انهمرت من النوافذ والشرفات ملاعقَ كثيرة، تناولتُ واحدة منها وقمنا بإدخالها في فمِ ابنتي وانقلبَ لسانها، مما سمحَ بمرور بعض الهواء إلى رئتيها… وهو ما أعادَ إليها جزءاً من وعيها، لكنها بقيت تحت الخطر.
لم يكن هناك أمامَ زوجي من خيارٍ سوى المسير بها تحت مرمى نيران القنّاصين، إلى أقرب مشفى في حي السريان، حيثُ المشفى الذي أعملُ فيه… عندها اتصلتُ بزملائي في المستشفى، وطلبتُ منهم تشغيل المولدات والتأهُّب لإعطاء ابنتي الأوكسجين…
ذهبَ زوجي حاملاً ابنتي… وبقيتُ في الشارع لأكثر من أربع ساعاتٍ أنتظرهُ، غير آبهة بالقذائف والرصاص المتطاير من حولي. فلم أستطع الذهاب معه وتعريض حياة ابنتي الثانية لخطر القنص… أبقيتُ ابنتي في المنزل مع الجيران، لكني لم أستطع إلا البقاء في الشارع…
كانَ الطريق الذي يحتاج من منزلي إلى المشفى حوالي العشر دقائق فقط، قد كلَّفَ زوجي أكثر من ساعة ذهاباً وساعةً إياباً، ومكثَ في المستشفى لساعتين.
أربعُ ساعاتٍ من الانتظار… لكن، ها هو قد عاد…
عادَ زوجي حاملاً ابنتي ورأيتُها مبتسمة رغم الإرهاق البادي على وجهها… ضحكتُ وحمدتُ الله، وبكيتُ في آن… ها هوَ قد ابتعدَ عنها شبح الموت، الذي كنا ما نزال نخشاه داخل الحي… والرصاص والقتل مستمران.
بعدها استطعتُ أن أستغلَّ صمت المعارك لساعةٍ واحدة… حينها نامت طفلتاي، لكن أيقظتهما من جديد قذيفة أصابتْ المبني الذي نقطنُ فيه، وقد استهدفت الطابق الخامس الذي كانَ قد نزحَ سكّانه من اليوم الأول للمعارك.
تسببَ ذلك بدمارٍ في السطح وبثقوبٍ قد أصابت جميع خزّانات المياه تقريباً… صرنا نسمع صوت تسرب المياه من الخزانات… كانت ليلة مرعبة لم نعرف فيها النوم… عتم وبرد ومعارك…
في صباح اليوم التالي، قررنا النزوح لأنهُ لم يعد هناك أي مجال للبقاء… فالحي قد تحوَّلَ لمدينة أشباح!
علّنا نطوي صفحة ذاك النهار…
لم نجد في الصباح مكاناً نشتري منه الخبز، الذي سنأكله لآخر مرة في منزلنا… وذلك لتوقُّف جميع الأفران عن العمل، فأكلنا بقايا خبزٍ كنا قد حصلنا عليه من أحد الجيران في اليوم السابق… ثمَّ حملنا حقيبة صغيرة تضمُّ ما تحتاجُ له طفلتانا. ودّعنا المنزل الذي كنّا نعلم أننا لن نعود إليه بالمدى المنظور، ورحلنا مشياً على الأقدام…
كان يجب أن نمر بالشارع الرئيسي من أمام المنزل، وهو معرّض للقنص، قبل أن نسلك معبر الشيخ رز المعرّض للقنصِ أيضاً…. تسلّحنا بالشجاعةـ ولم نكن وحدنا في الشارع… وعَبَرنا… نساء، أطفال، شيوخ، شباب يعبرون… وكانَ الشبّان يساعدون الأكبر سناً ويعطونه الأولوية بالعبور…
وحدة المصير أكسبتنا الشجاعة… شجاعة إلزامية في مواجهة الموت…. هرولنا بسرعة، وأنا أحمل بين يدي طفلتي الصغيرة، فيما زوجي كان يحمل ابنتي الأكبر فرح، ذات الأعوام الثلاث…
عندما وصلنا إلى الكراج الذي سنتوجّه منه إلى الريف الشرقي حيثُ يسكن أهلُ زوحي، سألتني فرح عن سبب الهرولة بتلك الطريقة دونَ توقُّف! عندها أجبتُها بأننا نخاف عليها وعلى أُختها من القنّاص… فقالت لي: “نعم، لقد عرفتهُ… هو القنّاص صاحب صوت الـ بُم بُم أصحيح؟!”
ما تزال ابنتي فرح إلى اليوم، وقد صار عمرها أكثر من ست سنوات، تسألني عن القنّاص: “هل ما يزال يُصدرُ الصوت نفسه؟”! وتسألني: “هل ما يزال يسكنُ في ذات المكان؟ وما يزال يُخيفُ الأطفال؟”
الصمتُ جوابٌ غير كافٍ للأطفال، وكذلك الكذب ليس حلاً… فأضطرُّ للإجابة بالحقيقة: “نعم ما يزال القنّاص في مكانه، لكنهُ لم يعد يُخيفُ الأطفال”!
هدى أبو نبوت (36 عاماً) درست الإعلام في جامعة دمشق، وعملت في المجال الطبي حتى مغادرتها سوريا في أيار/مايو 2015. تقيم في اسطنبول في تركيا وتعمل حالياً في مجال الصحافة.