العسكري على الحاجز طلب يدي!
من حي السكري في حلب .صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
استمر حصار الجيش التابع لنظام بشار الأسد لأكثر من أسبوع على حي السبينة في ريف دمشق، حيث كنت أعيش مع عائلتي… قررّ بعدها في صباح يوم الخميس بتاريخ 14 شباط/ فبراير 2013، أن يفتح لنا الأبواب للخروج من الحي، بعد هدنة مع الجيش الحر.
بدأتُ بحزم أمتعتي، للخروج مع أمي باتجاه منطقة صحنايا القريبة. خرجتُ وأمي وكنا نرتجف من الخوف، وسط انتشار القنّاصات على أسطح الأبنية العالية وعند منطقة صوامع الحبوب. كانت الشوارع مليئة بالركام بسبب القصف والإشتباكات التي كانت تدور بين جيش النظام والجيش الحر.
تابعنا المسير، وقبل أن نصل إلى حاجز الفرن، اقترحت أمي أن نتجه إلى طريق فرعي مختصر… فحاجز الفرن لا يسمح بمرور المدنيين الذين يحملون حقائبهم بأيديهم، بل يريدنا أن نخرج بلا حقائب! ذهبنا سوياً في ذلك الطريق الفرعي والخالي. وفجأة ظهر أمامنا مجند من جيش النظام وبدأ يلوّح بيديه باتجاهنا. كان مختبئاً خلف تلة، وحين رآنا خرج. سرنا نحوه، وإذ بقطعة عسكرية خلفه، ولم نكن نعلم بوجودها!
بدأ الحديث معنا، وسألنا عن سبب مجيئنا عبر هذا الطريق. قالت لهُ أمي: “كنت أعتقد أنه طريقٌ مختصر”.
ردّ عليها قائلاً: “هذه نقطة عسكرية، ومن غير المسموح لأي شخص أن يمر من هنا”!
بعدها بدأ بتفتيش الحقائب، وأخذ حقيبتي الشخصية ليفتشها. سألني إن كنت أمتلك جوّالاً، فشعرت حينها بأنّ نهايتي قد اقتربت! بدأتُ أرتجف، لأنَّ جوالي الصغير المخبّأ تحت بنطالي، يحتوي على صور وفيديوهات ثورية!
أجبته: “لا… لا أمتلك جوّالاً”.
وبعدما انتهى من التفتيش، أمرنا أن نعود إلى الخلف، ونتجه نحو حاجز الفرن للخروج. في ذلك الوقت لم يكن مسموحاً دخول أو خروج أي وسيلة نقل، فتابعنا سيرنا على الأقدام نحو الحاجز. كنت أحمل في يدي حقيبتي الخاصة، وحقيبة المدرسة، لأني كنت طالبة في الثانوية، بالإضافة إلى ملابسنا.
ما إن اقتربنا من الحاجز و رأوا الحقائب معنا، قام عسكري بتوجيه سلاحه نحونا ويده مرتفعة قليلاً للأعلى فأطلق النار… كان إطلاق النار يعني أنهُ لا يمكننا الخروج. فارتميتُ على ركبتَي من الخوف، وسقطت الأغراض من يدي. فيما هو يطلق النار تكراراً، ويصرخ: “عودوا إلى الخلف”!
نهضت من جديد وعدت مع والدتي سيراً باتجاه المنزل. لكن لم أستسلم! وأنا في منتصف الطريق، تذكّرت مخرجاً يُقال أنه خطير جداً ويحتوي على أكبر عدد من القنّاصات. ويُسمى (مفرق الباردة). قررنا الذهاب منه أنا ووالدتي، لأننا لا نريد أن نعود مجدّداً إلى منزلنا وإلى الحصار والخوف الذي عشناه هناك.
وبينما نحنُ نتابع طريقنا، بدأت القنّاصات تطلق النار علينا… بدأنا نركض وأغراضنا تتساقط من الحقائب. لم نُصب بطلقات القنّاص… إلى أن وصلنا إلى حاجز طيّار (متنقل)، فيه عسكريين على سفح تلة صغيرة. طلب أحد العسكريين بطاقاتنا الشخصية. وبدأ يسأل أمي عدة أسئلة: من أين أنتم؟ لماذا أتيتم إلى هنا؟ ما عمل زوجك؟
قالت له أمي: “نحن من إدلب”!
فاحمرّت عيناه، وردَّ قائلاً: “أنتم من بلد الإرهاب”!
قالت له أمي من خوفها: “ليس كل الناس إرهابيين في إدلب، هناك نسبة قليلة فقط من المجموعات المسلحة”.
فسألها: “لماذا لم تسافروا إلى إدلب من قبل، لِمَ اخترتم هذا الوقت؟”
فأكدت له أمي، أننا في سبينة منذُ زمن وبأنَّ والدي يعمل فيها.
بعدها طلب من أمي أن يتحدث معي قليلاً!
شعرنا أنا وأمي بالخوف من طلبه! استجمعت أمي قوتها وقالت له: “ماذا تريد من إبنتي؟!”
قال: “سأسألها سؤالاً واحداً فقط أمام عينَيك، لا تخافي!”
ثمَّ سألني ذات الأسئلة التي وجهها لأمي. ثمَّ انتقل ليسألني عن إسمي وعمري ودراستي.
كنت أجيبه بكل هدوء وثقة بالنفس، دون أن يشعر بأني خائفة منه، في الوقت الذي كانت أمي تموت من خوفها.
بعد كل هذه الأسئلة، سألني سؤاله الذي كان يمهّد له: “هل أنتِ متزوجة؟”
أجبته: “كلا”.
فقال: “ما رأيك أن نزوّجك لأحد الشبّان من قريتي؟”. فكان ردّي: “أريد أن أُكمل دراستي، ولا أريد أي شيء آخر”!
فسمحَ لنا بالعبور! وقلتُ في نفسي: وسط كل هذا الموت والقنص، يطلب يدي لأحد أبناء قريته أو ربما له؟! كم هو فارغ فعلاً!
تابعنا المسير بعد حاجز العريس! وإذ بحاجز آخر يبعد حوالي 200 متراً، هو حاجز بيجو. وكان هذا الحاجز يتعامل مع كافة الناس بالسوء، كما كنا نسمع عنه. وصلنا إليه، فقال لنا العسكري: “لن أسمح لكم أن تخرجوا… عودوا إلى المكان الذي جئتم منهُ”!
بعد انتظار طويل ونحن نتحدث معه راجين منه أن يسمح لنا بالدخول، جاء ضابط وسألنا سؤالاً تافهاً: ” لِمَ تريدون أن تخرجوا؟” أجبناه أنا وأمي: “نحن محاصرين في حيّنا منذ أسبوع، وبأنَّ الجيش نفسه قرَّرَ بعدها أن يفسح لنا المجال للخروج… وما من حاجز نأتي إليه، يسمح لنا بالخروج! لماذا قلتم للناس أن يخرجوا، ولا تسمحون لهم بالخروج؟!”
صمتَ قليلاً ولم يتحدّث معنا، ثمَّ أومأ لنا بالعبور. بعد كل هذا العناء والعذاب ومعاناتنا على الطريق، ذهبنا إلى صحنايا… كانت أجمل لحظات حياتي حين وصلت إلى صحنايا. وجدتُ فيها الأمان والإستقرار، بخلاف ما عهدته من القصف والحصار والدمار والجوع في حي السبينة.
حين أتذكّر عرض العسكري بالزواج، أيقن كم أنّ ما نعيشه يمبكي وغبي في آن.
نادين المحمد (21 عاماً)، درست في كلية التربية حيث كانت تقيم في ريف دمشق، ثمَّ بسبب الأوضاع الأمنية تركت دراستها وانتقلت مع عائلتها إلى ريف إدلب.