الشعور الخَفي بالفقدان!
مهرجان أقيم في حي الزبدية أول أيام عيد الأضحى عام 2015. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
تروي لي هنادي بحزنٍ شديد، ودموعها تملأ عينيها: “كنت فرحة جداً، لأنّ أخي قد وجد شريكة حياته، وسيُعقد قرانه. وكنت فرحة أكثر، لأني سأقوم بتزيين العروس، فقد مارستُ مهنة تصفيف الشعر لمدة عام كامل، ولدي خبرة بذلك”.
تتنهّد هنادي: “في صباح يوم عقد القران، استيقظتُ باكراً وأنا أشعر أنّ الساعة تمشي ببطء… لِمَ؟ لم أكن أعلم لماذا!”
وتُكمل هنادي: “قبيل الظهر، أخذتُ أطفالي إلى منزل أهلي. وفي ذات القرية يقع منزل أهل العروس… ذهبتُ إليهم، وأسرعتُ بتسريح شعر زوجة أخي المستقبلية… لكني بدأت أشعر بالتعب. لم أعلم ما السبب أيضاً! شعور بالغصة يتملكني، ولم أكن أعلم لماذا! وكلما مرَّ الوقت، كلما زادَ ضيقي…”
تقول هنادي أنها انتهت من تجهيز العروس، وجلست تنتظر قدوم العريس… فعقد القران سيكون، في منزل أهل العروس. كانت الثورة قد بدأت، والطائرات لا ترحم القرى والمدن، والطرقات تقطَعت… بدأ الناس حينها بعقد القران في المنازل، وفي وضح النهار.
صعدت هنادي إلى سطح المنزل تترقب وصول أهلها… ما هي إلا دقائق حتى صاحت بلهفة كسرت كآبة تتملكها منذُ الصباح، وقالت: “جاءَ أبي… وأخيراً!” كانت هنادي متعلقة جداً بوالدها… ركضت إلى الباب… وبعدما قبّلت يديه، استقبلته بحرارة شديدة إستثنائية، ولم تكن تعرف لماذا!
وبدأ الإحتفال… فتمّ عقد القران، والكل سعيد… والد هنادي ألقى التحية على إبنه وعروسته، وكان في عجلة من أمره… فتجهَّزَ للذهاب. فقالت هنادي: “أبي، إلى أين أنت ذاهب؟ إبقَ أكثر”. أجابها: “إلى البيت… ولا أستطيع التأخر!”
انتهى الحفل، لكنَّ هنادي عادَ إليها شعور الضيق، الذي كان ينتابها منذُ الصباح! وعادت إلى منزلها، فوجدت زوجها بانتظارها… لم يكن في العرس، فالعرس فقط للنساء.
أسرعتْ بإعداد الطعام لزوجها، وشعور الضيق يلازمها! بعد ذلك سمعت آذان المغرب، فقالت لزوجها:
“عذراً، لن أستطيع الجلوس معك، أريد أن أنام”
دخلت في نوم عميق، وكأنّ الجبال والكآبة تسكنها. فجأة استيقظت هنادي من نومها، على صوت زوجة أخيها الأكبر، التي أتت إليها تقول: “هنادي هنادي، استيقظي! جئتُ مع زوجي إلى هنا، لكنهُ اصطحب زوجك، وذهبا بسرعة إلى المستشفى! يُقال أن هناك جثة لرجل مجهول، يريدون التعرُّف عليها”.
خافت هنادي كثيراً، وحاولت الإتصال بإخوتها، علَّها تعرف ماذا يحدث! لكن لا أحد يرد على الاتصال!
حين ردت عليها أختها، أكدت لها ما قالته زوجة أخيها، لكنها لم تكن تدري أكثر من ذلك…
وضعت هنادي الهاتف جانباً، وبدأت التحدث مع زوجه الأخ، وتقول: “يا ترى مَن هو ذلك الرجل الذي مات… ربّي صبّر أهله”…. كانت تقول ذلك في سرّها خين وصلتها رسالة نصّية من أختها، عبر هاتفها المحمول تقول: “أبوكِ مات”. وقعت هنادي على الأرض ووقع الهاتف…
تروي لنا كيف بدأت بالصراخ: “أبي لماذا تركتنا لماذا ذهبت؟ قلتُ لك ابقَ، لكنك لم ترضَ… لماذا تركتنا؟”
تذكر حين أتى زوجها يصطحبها لوداع والدها الميت. ذهبت هنادي وهي تبكي وتصيح: “أبي لم يمت!”
دخلت إلى الغرفة التي وضِعَ والدها فيها… وإذ به مغطّى بالدم، ولم تتبين ملامح وجهه الحقيقية من شدة التشوّه. قضى بقصفِ طائرة من طائرات النظام، شوهّت وجهه وجسده…
هنادي منذُ الصباح، كان لديها إحساس الفقدان. قالت وهي تبكي بحرقة: “فقدتُ أغلى ما أملك… إلى الآن ما أزال أفكّر بأبي وأحنّ إليه. وأكثر ما يؤلمني أني في ذلك اليوم كنتُ أجهّز عروساً ليومِ فرح… وتحوَّل إلى يوم حزن شديد… أتمنى ألا أًصاب بشعورٍ آخر بفقدان شخصٍ عزيز… وأن تنتهي الحرب التي جرحت عيوننا من البكاء“.
مريم ابراهيم (24 عاماً)، من حماه. ربّة منزل وأم لثلاثة أطفال. اضطرتها الأحداث الأمنية للرحيل من منزلها، وهي الآن نازحة مع عائلتها في ريف إدلب.