الرغيف المغمّس بالدم

سيدات غاضبات من امتناع أحد مكاتب الإغاثة من تزويدهم بكميات إضافية في أحد أحياء مدينة حلب

سيدات غاضبات من امتناع أحد مكاتب الإغاثة من تزويدهم بكميات إضافية في أحد أحياء مدينة حلب

جدي الذي كان وحيداً لوالديه، أنجب ولداً وحيداً وخمس بنات، واحدة منهن كانت من أصحاب الاحتياجات الخاصة. كان جدي يحبها حباً جمّاً وقد يكون أكثر من أخواتها. كان يقول: “فاطمة ستدخلني الجنة”.

كرّس جدّي حياته للعمل في الحقول، كان يستيقظ باكراً ويذهب للسوق، من أجل تأمين كافة احتياجات المنزل من خبز وخضروات وغيرها من المواد. ويكمل باقي يومه في عمله الدؤوب، كان رغم التعب سعيداً جداً بهذا العمل وكان يعيش حياة سعيدة مع عائلته .ومرت السنين ولم يبق في المنزل سوى جدي وجدتي وفاطمة. تزوج جميع أبناء جدي، وكان رغم مرور السنين يزاول عمله القديم .

بعد قيام الثورة في سوريا ودخول الجيش إلى مدينتنا كفرنبل تغيرت الأحوال كثيراً. أصبح جدي يعاني من صعوبة الذهاب إلى عمله اليومي في الحقول بسبب كثرة حواجز الجيش. وإغلاق جميع مداخل ومخارج المدينة.

لم تعد تلك الفرحة ظاهرة على محياه كما كانت في السنوات الماضية. أصبح جدي يشعر أنه مقيد ومكبل. هذه الحالة التي لم يعتد عليها من قبل. زادت من حزنه وبؤسه فأصبح وجهه شاحباً ولم تعد تلك الابتسامة الساحرة تظهر على شفتيه . ورغم ذلك حاول جدي التكيف على العيش في هذه الظروف الصعبة. فكان يقوم بتأمين احتياجات البيت كما كان يفعل في السابق .

وفي أحد الأيام استيقظ جدي باكراً.

سألته جدتي: ما الذي أيقظك باكراً؟

قال لها: سأذهب لأحجز مكاناً في الطابور الذي يصطف فيه الناس من أجل الحصول على الخبز، لأن الطابور مزدحم جداً وأريد أن أحصل على ما يكفينا من الخبز.

أجابته: يا رجل يبدو عليك التعب، لا تذهب. بعد قليل سأتصل بولدنا أحمد ليجلب لنا الخبز معه، فهو اليوم سوف يأتي لزيارتنا .

ولكن جدي أصر على الذهاب رغم ذلك، وفي طريقه إلى الفرن صادف زوج ابنته الكبرى. وعندما علم أنه ذاهب إلى الفرن قال له أنا سوف أحضر لك الخبز، يبدو عليك التعب اذهب للمنزل لترتاح قليلاً.لكن جدي رفض ذلك وأكمل طريقه إلى الفرن. وصل إلى الفرن واصطف في الطابور وبدأ بانتظار دوره من أجل الحصول على الخبز. فجأة بدأ إطلاق نار في المدينة من مكان بعيد، ولم يكترث الناس كثيراً لذلك. فقد اعتادوا على سماع أصوات إطلاق النار في المدينة منذ دخول الجيش إليها. ولكن بدأت أصوات إطلاق النار تعلو شيئاً فشيئاً وبكثافة كبيرة ومخيفة. أصيب الناس بالذعر والخوف الشديد، ولكنهم لم يتمكنوا من الفرار من المكان. لأن الجيش تحرك بعرباته وسياراته بسرعة كبيرة في المدينة، وكان يطلق النار بكثافة وبشكل عشوائي. وعند مرور عربات الجيش وسياراته من جانب الفرن لم يتوقفوا عن اطلاق الرصاص، بالرغم من وجود عدد كبير من الناس. ما أدى إلى إصابة العديد ممن كانوا يصطفون في الطابور أمام الفرن. وكان جدي من بين المصابين.

تم إسعافهم إلى المشافي والنقاط الطبية الموجودة في المدينة، ولكن إصابة جدي كانت خطيرة جداً، الرصاصة دخلت بطنه ومزقت أحشاءه من الداخل. وكان النزيف شديداً جداً وقرر الأطباء القيام بعمل جراحي سريع وإسعافي لإيقاف النزيف الحاصل. رغم خطورة إجراء هذه العملية الجراحية  بسبب ضعف الإمكانات المتاحة والحاجة إلى كميات كبيرة من الدم. ولكن الأطباء لم يتمكنوا من إيقاف النزيف الشديد، وبقي جدي ينزف حتى استشهد برصاص الغدر يوم السبت الواقع في 13/10/2012 وهو يقوم بتأمين رغيف الخبز، تاركاً وراءه جدتي المتقدمة بالسن وخالتي فاطمة التي تحتاج إلى الكثير من الرعاية والاهتمام، وحيدتين في منزل جدي القديم.

جدي حالة  من الحالات الكثيرة جداً في وطني، والتي كانت ضحية لهذا النظام المجرم وظلمه.

ناية العبدالله (30 عاماً) من كفرنبل، متزوجة وتحمل شهادة معهد صحي… فقدت وظيفتها بسبب الأوضاع الأمنية في سوريا.