ابن أختي تحتَ الركام
في صبيحة ثالث أيام عيد الأضحى عام 2015، ذهبتُ إلى منزل أهلي لمساعدة أختي وزوجها بتحضير وليمة الغداء، بمناسبة زواج ابنتهما ندى من الشاب ابراهيم. انضمّت إلينا أختي الكبرى مع أولادها، وبدأنا بتحضير الطعام في جو من السعادة الكبرى.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، هدرت بصوتها المرعب، فتوقّفنا عن العمل والنشاط، أصابنا الجمود والذهول والخوف. طائرة حربية على الأرجح من نوع ميغ 23 أسقطت حملها في وسط المدينة. الحمدُ لله لم يُصب أحد بالغارة، لكنها خلّفت دماراً هائلاً.
جاء أصغر أبنائي ليطمئنني عنه، قبل أن يعود إلى دكان صديقه في السوق. تمنّيت عليه ألا يذهب، لكنه أصرّ قائلاً: لا أحد يموت قبل انتهاء عمره.
بعدَ ربع ساعة عاد زوجي ومعه إبني. أبلغانا أنهما سمعا أن موجة من القصف العنيف ستستهدف المدينة. وأن معظم السكان قد نزحوا.
لملمنا أغراضنا مسرعين، غلّفنا المأكولات وجهّزناها. سننقل وليمة الغداء إلى أرضنا الزراعية. لم نكن بوارد الانصياع لأجندة النظام. قررنا أن نمضي بحياتنا رغم كل التحديات. اتصلنا بالمدعويين وأخبرناهم بالأمر.
وبينما كنا نهم بركوب السيارات ونقل الحاجيات. أذاع المرصد خبر إقلاع طائرة حربية من مطار حماه! ناديتهم أن يعودوا، فالمنزل أكثر أماناً من الخروج في هذا التوقيت.
عدنا جميعنا إلى داخل المنزل. ودخلت إلى الغرفة حيث كانت أختي وابنتها الوحيدة، وابنة أختي الثانية، وابن أختي الكبرى وأخوه الصغير. بينما كان إبني وزوجي يقفان بباب المنزل. إلى جانبهم رجل يترقب معهم القدر. طلبت منهم أن يدخلوا المنزل، فعتبة الباب ليست بأمنة.
لا زلت أذكرتفاصيل ذاك النهار بدقة. ذهبت إلى المطبخ وكانت أختي الكبرى هناك. سألتني إن كنا سنأخذ معنا الماء البارد من الثلاجة، إلى الأرض الزراعية بعدما يتوقف هدير الطائرات. أجبتها بنعَم.
بينما كنت أفتح حافظة الماء، شعرت بثقل في جسدي وبأني أسند نفسي بصعوبة وأتحايل كي أبقى واقفةً على قدمَي.
أذكر أنّي كنتُ أتحدث مع نفسي، لم أصلِّ صلاة الظهر بعد! مع العلم أنه لم يكن قد رُفع الآذان. ثمَّ ابتسمت وسألت: لمَ الخوف من الموت؟ فقد مت ولم أشعر بطلوع الروح!
كانَ ذلك وكأنه حلماً، لأستفيق في ما بعد على صوت الطقطقة والتكسير خلف ظهري، الذي يصمُّ الأذان. عندها أدركت أن الغارة أصابت منزلنا.
اتجهت نحو الباب وأنا لا أرى سوى السواد والغبار يتسرَّب إلى صدري… رحت أنادي بأعلى صوتي وأنا أضع جزءًا من ثوبي على فمي وأنفي، عله يمنع عني استنشاق الغبار. ناديت أهلي: أين أنتم؟ طمئنوني عنكم… هل تسمعونني؟!
بدأت أصواتهم تصلني من هنا وهناك، وأنا باتجاهي نحوهم كي أتأكد من سلامتهم. لم أشعر بتلكَ الشظية الساخنة جداً، وهي تأكل من أسفل قدمي. تابعت طريقي إلى أن رأيت الجميع بعيني.
كانت الدماء تسيلُ منهم جميعاً، لكنَّ إصاباتهم تبدو غير خطرة والحمد لله.
تجمّعنا في مكانٍ واحد، وسألت عن إبنِ أختي الصغير، أين هو؟
أخبرني أخوه أنه كان يجلس بجانبه، يلعب على الحاسوب. رحت أنبش بين الركام وأصرخ باسمه! إلى أن وصل رجال الإسعاف، وقلت لهم أننا لم نجد إبن أختي الصغير!
بدأ رجال الإسعاف بإزالة ركام البيت، ليجدوا الولد الصغير حياً وقد أصيب إصابةً بالغة بالقسم الأيمن من رأسه. ونقلوا الطفل إلى مشفى باب الهوى الذي يبعد عنا مسافة ساعة ونصف الساعة، لإجراء تصوير طبقي محوري. فمشافينا الميدانية تفتقر لجهاز التصوير الطبقي مع العلم أنه ضروري جداً.
بعد التصوير أخبر الطبيب المسعفين، أنّهم سيجرون للطفل عملية بالرأس بأسرع وقت ممكن. فالطفل يعاني من نزيف داخلي حاد سيودي بحياته إن لم يتم إيقافه فوراً.
بعد لحظات بدأت العملية الجراحية، لتستمر ساعتين ونصف وتنتهي بنجاح!
استطاعَ الأطباء إيقاف النزيف، وإنقاذ حياة إبن اختي الذي لا ذنب له في ما يحصل في البلاد. لكنهُ يعيش في بيته ومدينته التي سلّط المجرم جام غضبه عليها.
إيمان محمد في الأربعين من عمرها أم لثلاثة أبناء، تسكن في ريف ادلب، تدير مشروع تدريب مهني وتعليمي خاص بالنساء. عملت ضمن فريق التلقيح ضد شلل الأطفال، إضافة لدورات تطوعية للنساء في الاسعافات الأولية.