ابتسمتْ طفلتي لوالدِها الميّت!
- أم تزور قبر ابنها الذي قضى بقصف الطائرات على حلب عام 2015. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"ناديتُ ابنتي أحلام، وسألتُها: "هل ارتدى أبوكِ معطفه؟!
قالت لي: "لا"! حزنتُ لأني تركتهُ يخرجُ باكراً في الجو البارد، دون أن يرتدي المعطف!"
ما أزالُ أذكرُ جيداً ذلك اليوم الواقع في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2015… أذكرهُ بأدقِّ تفاصيله. ذهب زوجي أحمد إلى السوق ليشتري بعضَ الأغنام لنقوم بتربيتها ونعتاشُ منها.
يومها حضّرتُ الإفطار باكراً، وجلسنا مع أطفالنا كي نأكُل… كنّا نتناول الطعام سوياً وسط المُزاح… كان يقولُ أحمد لابنته الصغرى: “سأشتري لكِ خاروفاً صغيراً كي تلعبي معه”. وكانت ترتمي في حضنه ويقومُ بتقبيلها لأنها مُدللته.
كانَ سوق الأغنام يقع بين قريتنا النقير وقرية الشيخ مصطفى. أتى أخي محمد بسيارته واصطحب زوجي معهُ، وذهبا إلى السوق.
أمّا أنا فقد بدأتُ أعمالي المنزلية، وكان أطفالي يلعبون في الخارج.
كانت الطقس خريفيا يتخلَّلُه بعض البرودة… ناديتُ ابنتي أحلام، وسألتُها: “هل ارتدى أبوكِ معطفه؟!”
قالت لي: “لا”! حزنتُ لأني تركتهُ يخرجُ باكراً في الجو البارد، دون أن يرتدي المعطف! لقد نسيتُ أن أُعطيه إياه، وبقيتُ أُفكّر بالأمر لوقتٍ… فيما كان قلبي مليئاً بالخوف ولم أكن أعلم لماذا!
وبينما كنتُ أواصل أعمالي المنزلية، إذ بصوتٍ قوي يدوّي في السماء! خافَ أطفالي وهرعوا إلى داخل المنزل مُسرعين…
جارُنا أبو محمد كان يملك جهاز اللاسلكي الذي يعرف عبرهُ اتجاه الطيران عن طريق المرصد. كان الصوتُ عالياً من الجهاز… كنتُ أسمعُ المرصد يقول: “فضّوا التجمعات، فالطيران الحربي الآن في وضعية التنفيذ”!
كادَ قلبي أن يسقط من مكانه، وأطفالي كانوا يبكون خوفاً من صوت الطائرة. ثمَّ سمعتُ المرصد يقول: “انتبه، لقد نفَّذَ الطيران الضربة”! وما هي إلا ثوانٍ قليلة، حتى دوّى صوت الصاروخ من فوقنا!
بعد أن عمَّمَ المرصد أنّ الطائرة أنهت ضربتها، صعدتُ إلى السطح أنا وأطفالي لنرى ماذا حدث! كانت قريتنا بحسب جغرافيتها مطلّة على سوق الغنم، وإذ به هوَ المستهدَف! سوق الغنم! حينها بدأتُ بالبكاء والصراخ: “يا ويلي، زوجي أحمد وأخي محمد في السوق”!
اجتمعنَ جاراتي من حولي، علّهنْ يخفِّفنَ عني شيئاً… كنتُ في وضعٍ من الخوف والقلق على زوجي وأخي…
الجميع يصبّرك في تلك اللحظة، مع أنّ الحقيقة قد تكون عكس ذلك… ولا شيء يدعو للتفاؤل بالخير!
ذهبتْ سيارات الدفاع المدني مسرعةً إلى مكان الضربة. وذهبَ إخوتي وأولاد عمهم أي أخوة زوجي إلى هناك أيضاً، أي إلى سوق الغنم، علّهم يطمئنون على أحمد ومحمد. قتلني الخوف وأنا أنتظر عودتهم… ماذا أفعل؟!
بعد وقت، عادَ باسم أخو زوجي، بوجهٍ حالك لا تتفسَّر معانيه! ركضتُ إليه مسرعةً وأنا أسأله: “باسم ماذا هناك؟ أين أحمد ومحمد، لِمَ لم يعودا؟!” أجابني بالقول: “لقد أُصيبا بصاروخ الطائرة في سوق الغنم، وها هما الآن في مشفى في كفرنبل”!
صعقني الخبر وسقطتُ أرضاً! حملني باسم وجارتي وأدخلاني إلى المنزل…
قالَ لي باسم أنه ذاهب إلى المشفى للاطمئنان عليهما… فأصرّيتُ على الذهاب معهُ وتركتُ أطفالي عند أمي.
ذهبتٌ والنار تحرقُ قلبي، والدموعُ لا تكادَ تتوقّف من عينَي.
كان الطريق طويلاً للغاية يكاد لا ينتهي، وأنا أحترقُ للحظة الوصول كي أطمئن على زوجي وأخي!
وأخيراً وصلنا… منعونا من دخول غرفة العمليات كي نرى أحمد فقد كانَ في حالة حرجة… كانت الإصابة بالغة في يدهِ اليُسرى وفي رأسه، وقد أدّت لنزيفٍ داخلي حاد! أمّا أخي، فقد كانت الإصابة في قدميه، والحمدُ لله كان وضعهُ مستقراً.
عدتُ للوقوف أمام غرفة أحمد منتظرةً أن يخرج أحد الأطباء ويقولُ لي أنَّ أحمد بخير وبأني سأراهُ ثانيةً، وبأنهُ سيعود إلى أطفاله ويحتضنهم… كنتُ أدعو إلى الله أن يحصل ذلك!
لكن بعدَ قرابة الساعة، خرجَ أحدُ الأطباء مطأطئ الرأس ولم يقل لي كلمة واحدة… اتجهَ نحوَ باسم… ركضتُ خلفَ الطبيب مسرعةً، وقلت: “دكتور، ماذا هناك هل أحمد بخير هل سينجو؟!”
قالَ الطبيب: أحمد مات!
هنا توقفت الحياة في عينَي… سقطتُ أرضاً ولا أعلم ماذا أفعل! لم أعد أذكر شيئاً، سوى أني سقطتُ واستيقظتُ لأجدَ نفسي على أحدِ أسرة المستشفى! بعدما استيقظت، عادَ لي ذلك الحلم المزعج…
لقد ماتَ أحمد! بدأتُ بالصراخ والقول: “أين زوجي؟ أطفالي في المنزل ينتظرون أباهم”! أمسكَ بي باسم، والدموع كانت تملأ وجههُ… كرَّرَ على مسمعي بعض العبارات الروحانية، فهدّأ من روعي قليلاً… عدنا إلى المنزل بسيارة الإسعاف… وتمددتُ إلى جانب زوجي في السيارة…
وأنا ممدّدة بجانبه، كنتُ أتذكَّرُ ساعات الصباح الباكرة، كيف تناولنا الفطور معاً… قبلَ ساعات كان أحمد مع أطفاله يضحك، أين هو الآن؟! أمسكتُ بيده وبدأت أمسح عن وجهه تلك الدماء التي خلّفها النزيف.
يا وجع قلبي… في طريق العودة، شعرتُ أنَّ المسافة قصيرة جداً، وكأنَّ لا شيء يُريدني مع زوجي مجدداً!
وصلنا إلى القرية، وسط صراخ الأهالي والجيران… أطفالي هرعوا يستقبلون أباهم ميتاً! استقبلوه بالبكاء…
كانت ابنتي الصغرى وكأنها لا تعلم ماذا يحدث! تنظرُ إلى والدها وتبتسم! هل كانت موعودة بالخاروف الصغير؟!
يا قهري…
هنا سكتُ وجفَّ دمعي… ربما من هول الموقف الذي أحرقني…
لم أكن أتخيّل في يوم أن يحدث هذا… خلالَ ساعات، تتغيّر من وضعٍ إلى وضعٍ… خلالَ ثوانٍ، تفقدُ مَن تُحب.
أمل محمد (34 عاماً)، ربّة منزل وأُم لثلاثة أطفال. توفيَ زوجها بالقصف وهي الآن تبحث عن عملٍ لإعالة أطفالها. تقيمُ في بلدة النقير في ريف إدلب، بعدما نزحت من سهل الغاب.