أوراق من بطولات حمصية

بدأت الثورة السورية في درعا في 15 آذار/مارس 2011، كنا نتابع الأخبار أنا وعائلتي المؤلفة من شابين وفتاتين وأبي وامي. كان التلفزيون السوري يتحدث عن الملثمين المندسين الذين دخلوا سوريا للتخريب وقتل المدنيين. عندها أيقنت أن شرارة الثورة قد اندلعت.

اعتقلت وحدات من الأمن السوري أطفال درعا الذين قاموا بالكتابة على حائط مدرستهم “الشعب يريد اسقاط النظام”. الجملة التي حلمت أن تقال في سوريا كما قيلت في بلدان أخرى. وسقطت أول قطرة دم في درعا، بعد أن أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي على المتظاهرين، الذين نادوا بمحاسبة عاطف نجيب مدير فرع الامن في درعا، بعد أن عذب عناصر الأمن السوري الأطفال واقتلعوا اظافرهم. وكما كان متوقعاً “لاحياة لمن تنادي”.

وأخيراً وبعد ثلاثة أيام دخلت مدينتي حمص بصفحات الربيع العربي وتحقق حلمي. وبدأت المظاهرات السلمية بأعداد هائلة من الرجال من كل الاعمار، حتى الأطفال الذين كانوا يتظاهرون رجالاً في مدينتي. طالبوا بخلع المحافظ ومكافحة الفساد بداية، وكما كان في درعا قام الأمن السوري بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. منهم من قتل ومنهم من أصيب بإصابات بالغة، وبالطبع نظراً لعدم إنسانية جيشنا وأمننا، منع المصابون من تلقي الإسعاف بالمشافي الخاصة بوصفهم “مخربين مندسين”.  قام الناس بفتح بيوتهم وإجراء الاسعافات اللازمة بعون بعض الأطباء المبتدئين والممرضين الشرفاء الذين كانوا مع الثورة بمعدات جراحية بدائية بسيطة.

يوماً بعد يوم أصبحت المظاهرات أكثر تنظيماً، وانخرط فيها العنصر النسائي.  قررت أن أكون جزءا لا يتجزأ من هذه الثورة العظيمة. وبالفعل ما إن كنت أعلم بوجود مظاهرة سواء في حي الخالدية الذي اقطنه، أو في حي القصور إو الإنشاءات أو جورة الشياح أو الوعر وغيرها، إلّا وأسرعت اليها أنا وإخوتي الثلاثة. كان أخي الكبير ليث (22 عاماً) أحد منظمي المظاهرات أيضاً. ليث يمضي سنته الثالثة في سجون النظام.

أبي الذي حارب في حرب تشرين التحريرية، الوهمية،  كان يقول: “النظام السوري سيبيد السوريين ويحرق الاخضر واليابس، أنتم لا تعرفونه”. كنت أجيبه: ” الذي لم تحسنوا فعله أنتم، نحن سنقوم به ولن نخاف”.

ظنّ مسؤولو الدولة أن سياسة القمع ستطفئ فتيل الثورة، وتخيف الناس وتسكتهم. لكنهم لم يتوقعوا أنهم بهذا يصبّون الزيت على النار… ومع تطور المظاهرات السلمية، وانخراط جميع فئات المجتمع فيها، من أطبّاء ومحامين وطلاب جامعات والمهن الحرة، والنساء من جميع الاختصاصات بدءاً بربّات المنازل وليس انتهاءاً بمعيدات الجامعات.

بدأت أسمع عبارات لطالما انتظرت أن أقولها “الشعب يريد إسقاط النظام”،  “سوريا حرّة حرّة بشار يطلع برا”.  بعد هذه العبارات تأكّدت أنّه ما من تراجع، وأننا مستمرون مهما كان الثمن، إلى أن ننتهي من الاحتلال الأسدي بإذن الله.

ازداد الخناق الأمني على حي الخالدية خصوصاً والأحياء الثائرة عموماً. بدأت حملات الدهم والاعتقالات من المنازل والحواجز، بسبب ومن دون سبب. تم منع إدخال المواد الغذائية للأحياء. لم تكتفِ قوات النظام بإطلاق الرصاص على المظاهرات، بل اصبحت تستهدف المنازل بقذائف الدبابات زيادة في القمع.

قرر رجال حمص وأبناء حي الخالدية التصدي لهم في ثورة الحرية والكرامة، بحماية المظاهرات بالسلاح الفردي البسيط لعدم اقتحام الأمن المظاهرات واعتقال النساء والأطفال، فحمل بعض المتظاهرين السلميين السلاح. حمل الثوار بارودة الصيد على أنواعها، لعدم وجود السلاح اللازم. لم يتهيؤوا لمثل هذه الحرب، كما يزعم الإعلام السوري عن اجندات خارجية تدعمهم بالمال والسلاح. تزايدت أعداد الضحايا بسبب دهم قوات الجيش والأمن الأحياء، للاعتقال والقتل العشوائي.

أي سلاح فردي سيقاوم هذا الإجرام. كان لا بد من إقدام بعض شباب الثورة على شراء الأسلحة الخفيفة والذخائر، وهذا ما حصل من خلال عناصر الحواجز أنفسهم، بسبب حاجة جنود النظام للمال والطعام، لأن مسؤوليهم رموهم كالكلاب في الشوارع، في الحر والبرد والجوع والعطش في خيم على الأرصفة.

حين أصبح الثوار أكثر قوة، قرروا أن يحرّروا الحي من المحتلّين بإزالة الحواجز. وبسبب الخناق الامني قام أهل الحي بالتبرع ببعض الأدوية وافتتاح مشفى ميداني بسيط يخلو من الأطباء، يعمل به ممرضون وشباب مبتدئون يقومون بالتدريب، استعداداً للأيام العصيبة القادمة.

أدركت أهمية انتمائي لمثل هذا العمل الإنساني، وأن عملي المتواضع بكتابة لوحات المظاهرات في منزلي أو عند أحد الأصدقاء، وتنظيم بعضها في عدة أحياء لم يعد كافياً، فقد ازدادت آلة القتل وآن أوان العمل الانساني النبيل. دخلت للمشفى الميداني الذي كان أخي ليث أحد المؤسسين، تلقّيت تدريبا من قبل الممرضين وفنيي التخدير على الإسعافات الأولية للمصابين، ليكتمل إحساسي بأنني فعلاً عضو فعّال ومخلص للثورة.

 

سيما الخالدي (28 عاماً) من حمص، كانت تدرس اللغة الانكليزية وتعمل كمعلمة. عند بداية الثورة تركت العمل والدراسة لتتفرغ بشكل كامل لدعم الثورة، حيث تعرضت على أثرها للاعتقال على يد النظام. وما زالت سيما الى الآن مستمرة في حمص تقدم ما بوسعها لدعم المحاصرين. توفي والدها دون أن تراه.