أحلام تحت الأنقاض

كان الوقت كفيلا بأن ينسيني شيئاً من معاناتي، ويفسح مجالا للفرح بأن يصل إلى قلبي المسكين الذي ذبل من كثرة الآلام، التي كابدها طوال الفترة الماضية. بشائر شهر رمضان بدأت تلوح في الأفق، ونفحاتها بدأت تتسلل إلى روحي المقفرة لتحيي فيها زهور الأمل ورياحين التجديد.

أقنعت نفسي أن أبدأ صفحة جديدة، وأمزق دفاتر الماضي بكل ما تحمله من مآسي. ولكن سرعان ما تشتت كل شيء. وخيّم الحزن هذه المرة بشكل أكبر. أخذت الطائرات الحربية بيتي الدافىء، ومعه كل ذكرياتي وآمالي وطفولتي. تلك الصاعقة التي أوقعتني أرضاً لن أنساها ما حييت. لحظة أخبرنا أحد أصدقائنا بسقوط حاوية من الطائرات الحربية التابعة للنظام على منزلنا، وقد هدمته بالكامل. لم يبق من المنزل حجر على حجر. كان حينها أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك. أصبح إفطارنا مختنقا بغبار الهدم ومجروحا بشظايا القصف. ازدادت حالتنا سوءاً، علاوة عن أنها كانت سيئة. ووضعنا أصبح يرثى له. أمي الصبورة وأبي المؤمن هما اللذان ساعدانا على تحمّل كل ما حدث ويحدث. المنزل الذي كان كل ما نملك هدم بالكامل، ولم نستطع أن نخرج منه أي شيء. غرفتي الجميلة أضحت ركاماً، وخزانة ملابسي وألعابي كلها أصبحت أشلاء، وذكرياتي كلها ماتت ودفنت تحت الركام.

بدأت حالتي تتدهور شيئاً فشيئاً. كنت لا أملك قدرة على تناول الطعام، ولا أقدر على النوم. كلّما أغمض عيني أتخيل منزلي الذي عشت فيه طفولتي ومراهقتي وذكرياتي و أحلامي. كنت لا أستطيع السيطرة على نفسي مع أن إيماني بالله قوياً، ودائماً كنت أردد أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. لكن نظرا لعدم قدرتي على تناول الطعام تدهورت صحتي النفسية والجسدية، فأصبحت طريحة الفراش، متعبة لدرجة كبيرة. أخبرتني أمي التي لم تفارقني أنني كثيراً ما كنت أهلوس أثناء مرضي عن بيتنا، وعبارات مختلطة بين الحزن والإيمان. عبارة الحمد لله لم تبرح لساني، بينما أسرد وأكتب قصتي الدموع لا تفارقني، لأن المشاهد أتخيلها أمامي وكأنها تتكرر في هذه اللحظات.

أطفال يلهون قرب أحد السواتر اللتي تحجب الرؤية عن قناص تابع للنظام السوري في حي بستان القصر. تصوير صلاح الأشقر

بفضل الله ومساعدة أهلي استطعت أن أتغلب على حالتي، فبدأت بالتدريس في المنزل الذي كنا قد استأجرناه. الطلاب يأتون إلى بيتنا لإعطائهم دروساً خصوصية .تناسيت قليلاً ما حلّ بنا من مصائب، وما كنت ألتفت لإرهاقي وتعبي من كثرة التدريس. المهم كان عندي ألا يكون لدي الوقت  لأجلس وحدي، كي لا أفكر بالماضي. كنت أهرب من أهلي وأصدقائي ومن نفسي إلى عالم لا يشبه الواقع، الذي لم أستطع أن أتقبله.

وفي ذات يوم سمعت أنه يوجد مركز في المنطقة بحاجة إلى مدربة كمبيوتر. قلت لنفسي علّني إذا خرجت وتعرّفت على أناس جدد أن تتحسن نفسيتي، وأخرج من كآبتي التي كانت تخنقني يوماً بعد يوم. وبالفعل ذهبت برفقة والدي إلى المركز، وقدمت طلباً للتوظيف. والحمد لله والشكر الذي جمعني مع ذلك المدير الشهم، فهو الوحيد من قدم لي يد المساعدة، واختصر كل إنسانية الكون بتعامله الراقي. قال لي: “لن أدعكِ يا أختي تخرجين من هنا إلّا ومعك مباشرة بالعمل”. يا الله على وقع هذه الجملة على نفسي المتعبة، لقد كانت كفيلة أن تمحو من روحي تراكمات متاعب خلفتها سنين عجاف.

كانت نقطة بداية لحياة يحلّق التفاؤل والأمل في جنباتها التي لطالما أتعبها البكاء. فمعرفتي بزميلات جدد، وانخراطي في عمل أحبّه ساعداني لتعديل مزاجي المنكسر. ونثر في قلبي إيماناً فوق إيمان بأن مع العسر يسر، وأن بعد كل ظلام فجر متفائل. عسى هذا الفجر ينير وطني الحزين،  يبدد ظلمة قهرأطبق على روحه مراراً، فهو جميل يستحق الحياة. والحرية والأمان يليقان بروعة أهله الطيبين البسطاء.

اللهم أرزقنا من عندك فرجاً قريباً شمسه لا تعرف المغيب .

رولة عبد الكريم في العشرينيات من العمر تحمل إجازة في علم الاجتماع .تعيش مع عائلتها في ريف إدلب.