آفة التدخين تجتاح عالم الأطفال في شمال سوريا
"هناك طفل مدخن من بين كل ستة أطفال على مستوى مناطق الشمال السوري، وهي نسبة مرعبة!"
يضع وسام (12 عاماً) سيجارته بين إصبعَيه الصغيرين، ويقوم بتدخينها بشيء من اللذة على الرغم من مضارها الكبيرة على صحته والتي بدت واضحة من خلال سعاله المتواصل!
حاولت منار (37 عاماً) والدة وسام، أن تمنعه مراراً من التدخين، لكن دون جدوى. فـ “وسام يريد أن يثبت لمن حوله بأنه أصبح رجلاً بعد وفاة أبيه أثناء قصف مدينة معرة النعمان في العام الفائت 2016” كما تقول منار. وتتابع بحزن: “لا أدري ما الذي يجري، لكن كل ما أستطيع قوله أنّ حياتنا أصبحت صعبة ولم يعد لدي أي سلطة على أبنائي!”
انتشرت ظاهرة التدخين بين الأطفال والمراهقين واليافعين في إدلب وريفها بشكل ملحوظ. الأطفال شريحة ضعيفة وهي الأكثر تأثراً بالضغوط النفسية والمشاكل العائلية، خاصة بعد تغييب الوالد بالوفاة أو الاعتقال، يُضاف الى ذلك قلة التوعية وتراجع دور المدرسة، وسط ما تعيشه البلاد من حرب مدمّرة على كل الأصعدة.
تروي منار ما جرى مع ابنها حين صار من المدخنين، بالقول: “كنت مضطرة للاعتماد على وسام بعد وفاة أبيه، ذلك أنه لم يعد لدينا أي معيل غيره. راحَ يعمل في إحدى ورش الحدادة ويصرف علينا، لكني فوجئت في يوم حين رأيتُ في فمه سيجارة فور عودته من العمل”.
تضيف منار: “وبّخته وقمتُ بتحذيره من مضار التدخين، خاصة أنه طفلٌ صغير! غير أنّ جوابه كان أنه لم يعد صغيراً، وانه الرجل بعد وفاة أبيه. فهو من يعمل ويحضرُ النقود؟ إذاً يحقُّ له كل ما يحق للكبار… يحق له أن أدخّن!”
يستطيع وسام أن يجني المال لشراء علبة السجائر لنفسه، إلّا إنّ حيّان (13 عاماً) يعتمد على والدته في شرائها. فهو لا يعمل كوسام، بل يقضي معظم وقته جالساً أمام باب المنزل وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى!
والدته رضيّة (38 عاماً) تعترف بأنَّ التدخين عادة سيئة، لكنها تبرر إعطاء ابنها المال لشراء السجائر بالقول: “وجدت نفسي مضطرة لفعل ذلك، فقد راح يستدين ثمنها وأحياناً كان يحاول السرقة لتأمين ثمن السجائر!”
رضيّة لم تتمكن من جعل حيّان يُقلع عن التدخين، ولا يوجد مَن يؤثر عليه لا سيما أنّ الوالد لم يعد موجوداً معهم منذ أن سافر إلى ألمانيا في العام 2013 وانقطعت أخباره… بينما تعيل الأم أبناءها الثلاثة منذ ذلك الحين، من خلال عملها كمستخدَمة في أحد رياض الأطفال.
حتى المعلمين لم يعد لهم أي سلطة على تلاميذهم المدخنين، وسط مشكلة حقيقية في عدم وجود مرجعيات فاعلة للأطفال بشكل عام وتراجع دور المدرسة.
المدرّسة إخلاص (28 عاماً) لا تزال تتذكر دهشتها الكبيرة حين رأت عدداً من الأطفال يدخنون في باحة المدرسة دون أن يهتموا لرؤيتها لهم. لكنها شعرت بمسؤوليتها تجاه هؤلاء الأطفال، فقالت لهم بغضب: “غداً عليكم إحضار أولياء أموركم معكم”.
كانت إخلاص تظن أنهم سيخافون، لكن بعضهم راح يضحك ورد أحدهم بسخرية: “أخشى من مجيء أبي إلى المدرسة، فقد يقوم بطردك أو نقلك إلى مدرسة أخرى”! في إشارة إلى أنه ابن أحد القياديين في الفصائل المسلحة، وأنه لا يستطيع أحد التعرض له ولو بكلمة، كما تقول إخلاص!
عن ظاهرة التدخين بين الأطفال وأسبابها وانعكاساتها السلبية والخطيرة، يتحدث عثمان معمار (32 عاماً) خبير نفسي واجتماعي، فيقول لحكايات سوريا: “ساهمت الحرب السورية بظهور ظاهرة التدخين بين الأطفال واليافعين نتيجة أسباب عديدة منها تقليد الكبار، القدوة السيئة، رفاق السوء، عدم وجود رقابة على بائعي التبغ… “.
ولا ينسى معمار “المشاكل الأسرية كحالات الطلاق أو غياب المعيل وبالتالي غياب الرقابة من الأهل، مما يفضي لانحراف الأطفال وسلوكهم لمنهج غير سوي في الحياة. وبحسب الملاحظ مؤخراً، هناك طفل مدخن من بين كل ستة أطفال على مستوى مناطق الشمال السوري، وهي نسبة مرعبة!”
يقدّم المعمار جملة من الحلول لهذه الظاهرة قبل استفحالها على حسب قوله: “هذه الحلول تبدأ بإرساء قواعد جيدة للاتصال مع الطفل في وقت مبكر، مما يسهم في تسهيل إبداء النصح له في بيان مضار التدخين ومدى خطورته الصحية وبذلك يتقبل الطفل النصح…”
ويضيف المعمار: “لا بد من مناقشة المواضيع الحساسة بطريقة لا تجعل الطفل في حالة خوف من العقاب، والأهم من ذلك أن يكون الوالدان قدوةً لأطفالهما في عدم التدخين، وزرع الثقة في نفس الطفل والتعرّف على كل ما يضايقه أولاً بأول تمهيداً لحل مشاكله”.
ويشدد المعمار على ضرورة حماية الطفل من أقران السوء وتشجيعه على المشاركة في الأنشطة الترفيهية والتوعوية.
الطبيب منصور المحمد (48 عاماً) أخصائي في طب الأطفال يقول لموقعنا: “للتدخين آثار مدمّرة على صحة الطفل، تبدأ بزيادة خطر الإصابة بالربو وأمراض الجهاز التنفسي والالتهاب الرئوي والتهاب الشعب الهوائية، وزيادة أمراض الأنف والأذن والحنجرة… وتنتهي بزيادة خطر الإصابة بما يسمّى متلازمة الموت المفاجئ”.
ويقترح المحمد “أن يتم السعي الفوري للحد من الظاهرة من خلال حملات التوعية والإرشاد، لا سيّما في المدارس ومراكز التوعية، والتعريف بخطورة التدخين ومضاره الصحية. وعلى المجالس المحلية للقيام بواجبها اتجاه الأطفال واليافعين بتوفير مرافق ترفيهية حتى يتمكنون من تفريغ طاقاتهم الجسدية والنفسية، واللهو واللعب مع أقرانهم”.
رئيس المجلس المحلي لمدينة خان شيخون محمد صالح معراتي (30 عاماً)، يصف ظاهرة تدخين الأطفال بالخطيرة منوّهاً بأنّ هنالك مراكز عدة في المدينة هدفها توعية الأطفال نفسياً وصحياً.
يبقى التدخين أحد أخطر الظواهر التي اجتاحت العالم ولم تستثنِ فئة الأطفال واليافعين، الذين لم يلبثوا أن وجدوا أنفسهم عرضة للأمراض الفتّاكة التي تضاف لمعاناتهم اليومية في سوريا وبشكل خاص في المناطق المحرّرة مع وجود الفقر والتشرد وفقدان المعيل…
الطفل يمان الكركص (12 عاماً) حضر إحدى ندوات التوعية تلك، وخرج بقرار أنه لن يعود إلى التدخين في حياته قائلاً لحكايات سوريا: “لستُ مستعداً لأعرّض صحتي للخطر من أجل تقليد الآخرين”.