آخر الدعوات في سوريا الصغيرة
طفلة سورية في احدة مدارس المخيمات، ترسم خريطة سوريا، الوطن الذي تحلم ان تعيش فيه امنة
"بعد محاولات عدة أقنعت نفسي بألّا أكتب لأحد. وأن أعتبر كتاباتي توثيقاً لما يجري، علّه يأتي يوم في زمن آخر، ويهتم أحدهم بآلامنا التي دفنت في القبر بجانب أجسادنا الهزيلة"
كثيراً ما أحاول أن أبدأ بالكتابة. أحاول أن أنقل ما نشعر به من ألم وخذلان. ولكنني أعود لأتوقف عن الكتابة ثانية دون أن أنقش حرفاً واحداً. أسأل نفسي عن جدوى ما نكتب. ولمن نكتب ومن يهتم أصلاً، ها قد أصبحنا في السنة الثامنة كتبنا ونشرنا وقتل من قتل ولم يهتم أحد.
بعد محاولات عدة أقنعت نفسي بألّا أكتب لأحد. وأن أعتبر كتاباتي توثيقاً لما يجري، علّه يأتي يوم في زمن آخر، ويهتم أحدهم بآلامنا التي دفنت في القبر بجانب أجسادنا الهزيلة.
“لا تصالحوا” هذه الكلمة تترد الآن على الألسن بكثرة في منطقة خفض التصعيد الرابعة، في إدلب وأرياف حلب الغربي وحماه الشمالي واللاذقية.
هذه الكلمة في المنطقة التي تعتبر آخر قلاع المعارضة السورية هي الأقوى السائدة حالياً. لا مجال هنا في هذه المنطقة لدعاة المصالحة. فهم وبحسب المعارضة إما عملاء للنظام أو جبناء، ومصيرهم الاعتقال.
وبالفعل داهمت هيئة تحرير الشام جبهة النصرة، والجبهة الوطنية للتحرير وهي تشكيل جديد وحد كل فصائل المعارضة، “أوكارهم” الدعين إلى المصالحة في ريف إدلب الشرقي، واعتقلت ما يقارب الـ 45 منهم، وما تزال الحملة مستمرة.
الخيارات لدى الناس في منطقة خفض التصعيد الأخيرة المتبقية محدودة وانحصرت بالدفاع عنها، فلم يعد هناك مجال لباصات خضراء تنقلك في حال رفضت المصالحة إلى إدلب، لأنه لم يبق هناك إلا هذه المحافظة الصغيرة، والتي يطلق عليها الناس هنا وصف سوريا الصغيرة.
هناك من يتبنى خيار عدم المصالحة، ولكنه يخفي الكثير من المخاوف. ليس سهلا أن تدافع عن مساحة صغيرة من الأرض، وأنت تعلم أن الجميع تخلّى عنك. وتظهر مخاوف هؤلاء من تجاربهم السابقة خلال 8 سنوات من تعرض للقصف والدمار.
في الحقيقة القصف هو القصف لكن الناس هنا يفرقون بين قصف قوات النظام وبين القصف الروسي، من خلال الأماكن المستهدفة. لا يملك النظام أسلحة حديثة تتقن إصابة الأهداف، وهو من اخترع “البراميل الغبية” التي وصفت بأنها أبشع أسلوب للقتل في العصر الحديث، فهي عبارة عن براميل نفط فارغة ملئت بالمتفجرات وقطع حديدية ترمى من مسافات مرتفعة بشكل عشوائي على الأحياء السكنية.
وعلى الرغم من ذلك ومحدودية الخيارات أمامهم لا بد من المقاومة. هنا الناس يتذكرون جيداً المصالحات حديثة العهد في محافظة درعا، وما جرى بعدها من حملات اعتقال طالت الكثير من الشبان والرجال، وحملات “التعفيش” من سرقة المحاصيل والمواشي وأثاث المنازل.
يدرك الناس هنا جيداً أن المقاومة تحتاج إلى مقومات من أجل الصمود، ما دفعهم للمشاركة في تحصينات الخطوط الأمامية، ومنهم من شارك بحملات تبرعات لصالح هذه التحصينات.
أنا والكثير مثلي هنا اخترنا المقاومة. ليست غزة بأفضل حال مع اختلاف العدو بنظر كل منا.
لكن ماذا عن أطفالنا؟ وضعت هنا خيارات أخرى بالتوجه نحو عفرين أو جرابلس حيث يتواجد الجيش التركي بقوة فيها. ولكن هل تتسع هاتين البلدتين الصغيرتين لـ 3 ملايين نسمة؟ هذا التساؤل حالياً لا يهم.
ما يهم هو حماية الأطفال وأن يبقى الرجال للمقاومة. المقاومة أحياناً ليست بطولة، ولكنها الخيار الوحيد المتبقي أمامك.
مريم محمد (24 عاما) من إدلب متزوجة وأم لطفلين توقفت عن متابعة دراستها الجامعية في سنتها الرابعة بسبب الحرب.