وكم من يتيم سوري خسر أهله وبيته ووطنه

رحلة نزوح على الحدود اليونانية عام 2016 - تصوير أحمد الخليل

رحلة نزوح على الحدود اليونانية عام 2016 - تصوير أحمد الخليل

"المعلمة كل يوم تقول لي أحضر أمك أو والدك. أقول لها ليس عندي لا أم ولا أب. ولكنها لا تصدق. أتمنى لو بقيا على قيد الحياة، فزوجة عمي عندها اطفال تعتني بهم، فهي لا تزعجنا ولكنها لا تهتم بنا مثل أطفالها جيداً"

أحمد (10 أعوام) لجأ إلى مدينة أنطاكيا تاركاً خلفه بيته في حلب، وأهله الذين خسرهم في الحرب. أحمد يتيم الأب والأم.
يقيم أحمد في نفس الحي حيث نقيم، وهو يذهب إلى نفس المدرسة التي يذهب إليها إبني وهناك تعرفنا عليه. كنت أرافق ولدي الصغير إلى المدرسة كل يوم. وهناك تجتمع الأمهات لتبادل الشكوى والفضفضة عن الهموم.
الأمهات يقتلن الوقت بانتظار أولادهن بالحديث عنهم، من صعوبة تعلم اللغة إلى المشاكل بين الاطفال الاتراك والسوريين وغيرها من القصص اليومية. وكنت كلما ذهبت الى المدرسة أرى ذاك الطفل ومعه امرأة تصحبه. وهو إما يبكي أو يصرخ أو أن الام تصرخ عليه. وكنت أظنها أمه.
وفي يوم من الأيام كنت أصطحب ابني إلى المدرسة، وإذ بأحمد وتلك المرأة ترافقه وهو يتذمر ويصرخ. سألتها: ما به؟
قالت: كل يوم تصلني شكوى عليه. وكل يوم يطلبونني الى المدرسة، وانا لدي عمل، هل سأظل أركض وراءه؟
أجبتها بعفوية: فليأت والده.
أحمد ولم أكن قد عرفت اسمه بعد نظر نظرة قهر. قالت هي: لو كان لديه أب…
عرفت حينها سبب نظرة الطفل تلك. اما هي فتابعت قائلة: أنا زوجة عمه، قضى والده ووالدته بفعل القصف في سوريا. يقيم هو مع أختيه عندي، إحداهما من ذوي الاحتياجات الخاصة… تمنيت وقتها ان تنشق الارض وتبتلعني (قول شعبي عربي يعبر عن مدى الإحراج) لأنني وبدون قصد آذيت مشاعر الطفل حين ذكرته بوالده.
منذ ذاك اليوم وانا أتابع هذا الطفل. أحاول مساعدته من دون أن أكلمه. أحاول ان أصلح بينه وبين الأطفال الآخرين. أردت عن أكفّر عن ذنبي وكانت مشاكله كثيرة، كل يوم شكوى عليه. الطفل مصاب بصدمة نفسية بسبب موت والديه، هكذا استنتجت. كنت أراقب تصرفاته وتذمره من الأطفال حوله وخاصة اذا رأى طفلاً بصحبه أمه.
كنت أكلمه كلما رأيته، أسأله عن حاله. وبدأ يستجيب لسؤالي. مرة قلت له حدثني عن اهلك، ماذا حصل معهم. لم يكن سؤالي صائباً. أعلم ذلك الآن. من الخطأ أن تسأل من هو في حالة صدمة نفسية أن يتذكر تفاصيل مؤلمة. إنه دور الأخصائي النفسي.
احمرّت عيناه وامتلأت بالدموع وقال: كنت ألعب في حينا، أنا واخوتي وأصدقائي. أمي في المنزل تحضّر لنا الطعام، وابي في البستان. كنا نركض فرحين لا نعرف ما ينتظرنا. وسمعنا صوت الطائرة من بعيد لم نستوعب المر حتى حدث الإنفجار. دوّى صوت قوي، الطائرة تقصف حينا.
وتابع أحمد يروي القصة وكأنه مسحور: لم استطع الرؤية من الغبار. ارتفعت أصوات الناس والأطفال. كنت أصرخ أمي أبي. وركضت إليهما فإذا بهما مضرجان بالدماء. فارقا الحياه بلحظة. وحتى هذه اللحظة لا أصدق ما رأيته. أشعر دائماً أنني سألتقي بهما قريباً.
وهو يعاند البكاء كان يقول: بقينا وحدنا انا مع أختيّ، كل ما بقي لي من الدنيا. أختي الأولى عمرها 11سنة لم تدخل المدرسة. لو كانت امي حية لما تركتها من دون تعليم. أنا عمري 10سنوات أعادوني الى الصف الأول لأتعلم التركية، وكل الأطفال أصغر. مني أخجل من نفسي أنا اكبر منهم بكثير.
أبلغني أنهم كانوا يتنمرون عليه ينادونه “أحمد الكبير”. وتابع يقول: “المعلمة كل يوم تقول لي أحضر أمك أو والدك. أقول لها ليس عندي لا أم ولا أب. ولكنها لا تصدق. أتمنى لو بقيا على قيد الحياة، فزوجة عمي عندها اطفال تعتني بهم، فهي لا تزعجنا ولكنها لا تهتم بنا مثل أطفالها جيداً”. كنت أستمع إلى أحمد الذي باح بكل ما كتمه في صدره، وكنت أبكي.
بتاريخ 14 نيسان/أبريل 2018، كنت أنتظر ابني، وإذا بأحمد يخرج من المدرسة باكراً، وكان يبكي.
سألته: ما بك؟
قال: فصلوني من المدرسة.
أخذته من يده وذهبت الى المترجمة، معلمة اللغة العربية تعمل مترجمة في المدرسة. أخبرتها بأن تشرح للمعلمة وضع الطفل، وأن تتوقف عن تأنيبه. وفعلاً ذهبنا سوياً للمعلمة وثم الى المدير ولكن للأسف كانوا قد رفعوا طلباً بفصل أحمد من المدرسة أو نقله إلى مدرسة أخرى. حاولنا كثيرا بلا جدوى.
تأثر المدير بكلامنا بعد أن شرحنا له وضع الطفل. ولكنه أبلغنا أن الأمر ليس بيده. فأهالي الأطفال يتذمرون ويشتكون من ضربه للأطفال. وتمنى لو أنه عرف قصته من قبل ولكن نفذ الأمر وتم فصله.
أحسسنا بالقهر والعجز. نظرت إلينا المعلمة وقالت لم نعد نستطيع فعل شيء. إغرورقت عينا أحمد بالدموع، واحمرّ وجهه، وخرج راكضا يبكي. لحقت به وحين وصلت إليه قال لي: ألا يكفي أنني تيتمت بلا سبب والآن أطرد من المدرسة! ما ذنبي أنا!
قلت له: يا بني لا تبكي. ان الله لا ينسى أحداً. ذنبك انك سوري، خسرت والديك وأصبحت لاجئاً وطردت من المدرسة من دون أن ينظر أحد إلى ملفك الشخصي ليرى سبب سلوكك.
حضنته قليلاً وانتظرنا إنهاء ابني يومه الدراسي. أخذت أحمد من يده وباليد الأخرى ابني. وذهبنا إلى بيتنا. هدّأت من روع أحمد، وأهديته قميصاً و بنطالاً، من الملابس التي منت بصدد بيعها.
قلت له: اعتبرني امك وخذ هذا والبسه في يوم العيد وافرح به ليفرح والداك بقبرهما. فسكت وابتسم قليلاً. اصطحبته إلى منزله وعدت الى بيتي وصوته لا يفارقني. كلامه يحرق قلبي. ما ذنبنا لنتشرد بلا وطن. وأطفال بلا أمهات ولا آباء.
ياسمين كرم (38 عاماً) ربة منزل وأم لستة أبناء لديها عملها الخاص في تركيا.