ورقة تحترق على غصن شجرةٍ سورية
10 تموز/يوليو 2013، معبر بستان القصر أو معبر الموت كما أسمّيه.
في أيام حصار حلب، تلك الذاكرة التي اتشحت بالسواد لم يعد فيها إلّا الركام. ذاك المعبر الذي يفصل مناطق الجيش الحر عن مناطق النظام .
كان الحصار اول ايام شهر رمضان. أرغموا الناس على اجتياز المعبر رغم خطورته للإتيان بلقمة تسد الرمق. وكان السبيل الوحيد للمدينة بأكملها.
وارغمت على عبوره العديد من المرات، للسفر إلى تركيا، حيث هناك عائلتي التي فرّت من هول الدمار. كنت أمرّ به كعبور الموت بالجسد. هو ذاك الطريق الدامي، كل حجر فيه ينزف، كل خطوة تسحبك لهاوية. كانت رصاصات القناصة تنهال على البشر، وكأن الانسان هنا ليس سوى ذبيحة تحاول أن تنجو من السقوط على خشبة المسرح.
لقم ممرغة بالدماء، أطفال تبكي أنيناً، عطشىً وجوعاً. مرضى تنقل بالأكفان، تحمل على الاكتاف. وموتى تشيع جنازاتهم في هذا الطريق الحافل بالموت.
وبالرغم من كل هذا الجحيم، تقف عند حواجز التفتيش التي تحد المعبر عند طرفيه. ترى جنودا يضحكون، لعلك تعجب من ضحكاتهم، تقول في نفسك، لعلهم ألفوا الحياة قرب الموت. لعلهم أصدقاؤه وخلانه.
كانوا لا يسمحون للمدنيين أن يحملوا إلا القليل من الطعام. كانوا يرمون بأغراض الفرد إذا كان يحمل لحماً أو خبزاً. ويصرخون بوجه النساء والعجائز ويضربون الأطفال إن بكوا. يسرقون أموالك أمام عينيك، ومن ثم يطلبون ابتسامتك.
أكثر ما كنت أعجب منه أن لغة السلاح هي ذاتها عند الجيشين، وأكثر سؤال قد يراودك في هذا الطريق:
عمّن يدافعون؟ من يقتلون؟
كنت لا تميز بين الجيشين إلا بالأعلام. إذ كانوا مجرد ميليشيات تقاتل باسم المال.
لم اذرف دموعاً ابداً. كنت أشهق. لا أذكر إلّا صوت صفير أنفاسي الذي تزامن مع صوت القذائف. أناس تجري مسرعة تلهث. تحسبها سكارى. تلتجئ في الزحام إلى اي درع بشري أو حجري. لتحمي موتها. تسخر حينئذ من حياتك. من كل يوم عشته. من كل عذاب سابق ذقته.
أيام ذاقت فيها المدينة الأمرين. أوقات سادية حفرت في ذاكرة كل فرد إلى الأبد.
معبر الموت. تصعد الشمس لعرش السماء بزفير آخر رمق لها. الموت فقط يعشعش في ثنايا هذا المكان.
أمشي، أغضّ طرفي. ترهقني نظراتي، لفرط الدمار. تؤلمني قباحة النّغم الذي تعزفه سيمفونية الحياة هنا. هي صورة كل ما فيها يحشرج. لا تقف هنا لتطالع الحياة. لا وقت للوقوف على أطلال قلبك. ولا لتعد أطرافك، إن نقصت. لاتنظر خلفك. لا تلتفت. وإذا سقطت قربك لا تلتقطني. لا تسل عني إن متّ. تلك هي معادلة النجاة.
فصاحة الموت هنا تتمرد على حياتك. تسطو على كل ما حولك.
فلا تمشي بمحاذاة قلبك، أفكارك، قيمك. إذا دخلت فتخلى قليلاً عنك. وإن تنجو قليلا فعد.
في آخر الطريق، هناك حارس الموت. هو ألطف قليلاً، يبتسم لنجاتك العاثرة، ثم يدنو منك ليعطيك تذكرة الخروج بسلام . يطبع على قلبك تلك الصورة السادّية للأرض. لتبقى ذكرى لنقصان شيء ما.
ما زالت وحشية المنظر تقتحم كلّ ربيع لقلبي. أقف مكتوفة الأيدي. فارغاً فاهي، أمام هذا الركام العجيب، وإن كلماتي وسيّدها ولبّها وأفكاري، وأحاسيسي جمعاء لتصعق لهول هذا الجحيم. تأخذني تارةً لطفولتي. تذكرني حين كنا طلاباً، نكتب مواضيع إنشائية، عن وصف آثار أو تراث أو حرب. كنت أبذل قصارى جهدي لأصف مشهد حرب أو ركام أرض. وآتي بشتّى الوسائل لاجتذب وقع شفقة لموضوعي.
أمّا الآن. طيف هذه الصورة، يولد رسامين، وشعراء وكتاب. لأنّها صورة تمرّدت على مصورها. وأحرقت عدسته بلهيب طالعها. لاريشة، ولا قلم لوصفها. إنّها منبع الألم الكوني، لورقة تحترق على غصن شجرةٍ سورية .
جنى بيطار (24 عاماً) من إدلب، درست الصيدلة في جامعة حلب. عملت كمتطوعة في مشفى حلب الجامعي، تابعت دورات عدة في مجال الإسعافات الأولية. تعيش حاليا في تركيا.