نظارتي التي أخذها الدواعش
امرأة سورية مسنة تحمل كيساً من الخبز فوق رأسها في أد أحياء مدينة درعا في جنوب سوريا
"في الحقيقة أن أكثر ما افتقدته كان نظارتي. أجل نظارتي ذات الساعد المعدني الأبيض والتي تذكرني بحوادث كثيرة. وحتى اليوم ينتابني فضول لمعرفة مصير الحقيبة والنظارة التي تم إيداعها بخزانة الحسبة. "
صباح مشمس من صباحات نيسان/أبريل 2015. صحوت على صوت الطائرة كما في غالب الصباحات المشمسة. ولكن لابأس، صار الأمر اعتيادياً. لم نعد نحب تلك الصباحات لأنها تنذر بيوم حافل من الطلعات الجوية. إن لم نقل القصف الشديد. وعلينا أن نمارس حياتنا الطبيعية.
تناول الإفطار فيما الطائرات تحلّق في الأجواء، له نكهة خاصة. قد لا تستطيع وصفها من حيث أنت في موقعك الجغرافي البعيد. بعد الإفطار، يأتي موعد الذهاب إلى المدرسة. تلك المدرسة التي ناضلنا لأجلها كثيراً.
وللأمانة هي ليست مدرسة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. بل هي أقرب لقاعة تعليمية فقيرة بوسائل التدريس المعتادة. لأننا كنا لا نستطيع المجاهرة بتعليم البنات علم الأحياء أو اللغة العربية. منعت داعش هذه الأمور لأنها، وحسب توصيفها، علوم كفرية. لذلك قمنا باتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لسحب كل الذرائع منهم لإغلاقها.
يستغرق الطريق من عمري نحو 20 دقيقة مشياً على الأقدام. أضطر خلالها لقطع حارة تفصل بين الحي الذي أسكنه ومكان المدرسة. هذه الحارة معروفة باسم حارة القنّاص. كون القنّاص يتمركز على جبل يشرف عليها وبشكل كامل. وكنت في الحقيقة أحب أن أسمع تنبيهات المارّة ودعوات العجائز الجالسات على الأبواب واللواتي منعتهنّ داعش بعد ذلك من هذه العادة المتأصّلة عند الكثيرات منهنّ. أعبر الحارة وأنا أقرأ الأدعية. وما إن أصل إلى المدرسة حتى يستقبلني الشعار اليومي: الحمد لله ع السلامة. كنت أعتبر ذلك نصراً يومياً.
كنا نتناوب على تدريس البنات. كانت زميلتي في تدريس شعبة الثانوي الوحيدة مهندسة تكفلت بتدريس الرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء. بينما أدرّس أنا اللغة العربية والتاريخ والجغرافية. والسبب أن المدرّسات خائفات من التدريس بهذه الشعبة لما قد يترتب عليهنّ من مسؤولية أمام الدواعش.
قمنا أنا وصديقتي بالتكفل بالأمر وتدريس البنات. صديقتي لم تغادر المدينة منذ بداية الثورة. وعاشت فترة التحرير تحت القصف بالبراميل. وبقيت في المدينة عندما احتلها الدواعش. ولكنها اضطرّت إلى الخروج إلى لشمال عندما كان النظام على أبواب المدينة في نهايات عام 2017.
صديقتي كانت من رواد العمل الميداني في مجال التعليم. ومن القلائل اللواتي ساعدنني في حملة المناصرة التي قمت بها لأجل فتح المدارس تحت حكم الدواعش. وعندما استطعنا فتح الشعبة الثانوية كانت معي وبادرت مباشرة بتدريس البنات .
وفي نهاية أحد الأيام الدراسية، وكنت أقف عند باب المدرسة وأستعدّ للخروج، كنا نتعجل الانصراف بشكل يومي. استوقفتني إحدى الطالبات لتدعوني إلى حفل زفاف شقيقها. بادرت بالمباركة لها ولكن صدمتي كانت من قولها: “نقيم حفل زفاف شقيقي في ذات اليوم الذي استشهد فيه شقيقي الأكبر السنة الماضية، هو وشقيق العروس. لقد أصرّا على إقامة حفل زفافهما في هذا اليوم”.
باركت لها بعبارات مقتضبة وغير مترابطة، ومشيت في طريقي وأنا أحاول فهم الأمر. وبينما أنا مستغرقة في خواطري وإذ بي أتفاجأ بسيارة الحسبة تقف أمامي ويناديني من فيها: “أنت يا أخت يا أمة الله”.
نظرت نحو السيارة ومن فيها وقلت: “هل تقصدونني؟”
قالوا: “نعم، أنت يا أختاه”.
“خيراً ما الأمر؟” سألتهم.
أجاب أحدهم، والذي عرفت في ما بعد أنه أبو شدّاد المشهور بفظاظته ومعاملته السيئة خاصة مع النساء، قائلاً لي: “أنتِ غير ملتزمة بضوابط الشريعةـ لأنك نكشفين عينيك وفي هذا فتنة للرجال ألا تعرفين هذا؟”
لا أخفيكم الأمر أنني التزمت الصمت. ربّما للحظات معدودة، هل أسايرهم وأقول نعم أنا مخطئة ومعترفة بذنب أني أمشي كاشفة عينيّ؟ أم أجادلهم وأطرح آرائي بكل جرأة بما يخصّ موضوع تغطية الوجه. وكذلك أسلوبهم الفظّ وغير اللائق مع الناس، أن هذا ليس من أدب الإسلام الذي نادى بالخلق الحسن؟
سريعاً حسمت أمري بالمواجهة. اقتربت منهم وألقيت السلام وردّوا باقتضاب. سارع أبو شدّاد بإعادة ما قاله فأجبت: “وما الضير في ذلك؟” سارع بالجواب: “هذا لايجوز”. سألته مباشرة عن النصّ الشرعي الذي يوجب تغطية الوجه، بما في ذلك العيون. امتعض وبدا ذلك واضحاً عليه وقال: “لا تجادلي يا امرأة”. قلت: “ومن يجادل أنا أم أنتم بالإضافة إلى أنكم توقفوني في الطريق وأنا وحدي، أليس في ذلك مخالفة شرعية حسب وجهة نظركم؟”
استمرّ الحوار والأخذ والردّ الذي رافقه امتعاضهم من النقاش وأنهوه كالعادة بطريقتهم: “اخفضي صوتك، ألا تعرفين أن صوت المرأة عورة. ولا بدّ أن تعطينا هويتك وتراجعي الحسبة لاستعادتها”. ولما تأكدوا بعد تفتيش حقيبتي أنني لا أحمل الهوية اكتفوا بمصادرة الحقيبة وطلبوا مني مراجعتهم في اليوم التالي لأخذها.
مشت سيارتهم وأنا في مكاني، كان عندي هاجس أنهم قد يحاولون تتبّعي لمعرفة البيت. ولكن لم يكن أمامي إلا أن أمضي بطريقي مع أخذ الحذر وكان ما توقعته. لقد شعرت بالسيارة تمشي ببطء شديد، وبينما أنا في الطريق. وإذ بي أرى تجمع نساء أمام أحد الأفران فدخلت بينهنّ ليضيّعوا أثري خاصة وأن جميع النساء كنّ يلبسن السواد مما ساعدني على الذوبان بينهنّ. ويبدو أنهم فقدوا الأمل بقدرتهم على متابعتي وبعد أن انفضّ جمع النساء قفلت عائدةً إلى البيت .
خليط المشاعر في وداخلي وقتها لا يوصف. قهر وحزن ولكن معهما حزم وتصميم على التغيير. ذات المشاعر التي دعتنا للنزول إلى الشارع في العام 2011.
في الحقيقة أن أكثر ما افتقدته كان نظارتي. أجل نظارتي ذات الساعد المعدني الأبيض والتي تذكرني بحوادث كثيرة. وحتى اليوم ينتابني فضول لمعرفة مصير الحقيبة والنظارة التي تم إيداعها بخزانة الحسبة.
سلام الغدير (35 عاماً) مدرّسة لغةعربية مهتمة بقضايا النساء ومستشارة جندرية، تكتب المدوّنات ومقالات الرأي في عدّة دوريات.