مجزرة أيلول الأسود
انتهيت من عملي في النقطة الطبية وكانت الساعة الرابعة عصراً، فقررت الذهاب إلى المكتب الذي تعمل فيه صديقاتي. يقع المكتب خلف النقطة الطبية بشارعين تقريباً.
كنت مع صديقاتي حين سمعنا صوتاً قوياً أعقبه أربعة انفجارات ضخمة. ارتعبت صديقتي وأمسكت بيدي وصرخت بشدة، تعاني الرهاب من صوت الطائرات، حاولت تهدئتها والتخفيف عنها. لم يمضِ ربع ساعة حتى تكرر صوت الانفجار، ولكنه هذه المرة كان أقرب، وامتلأ المكتب بالغبار. ركضت صديقتي نور إلى جهاز الكمبيوتر لمعرفة آخر الأخبار على صفحة تنسيقية دوما. وجدت خبرا يفيد عن غارات عنيفة تستهدف المدينة.
أخبرت صديقاتي أنني سأعود إلى لنقطة الطبية، وطلبت منهنّ إبلاغ أهلي بالأمر، عندما تهدأ الأحوال، وخرجت مسرعة. حين وصلت إلى باب النقطة كان المنظر أقسى من أن يُحتَمل، أغلب الذين تم إسعافهم إلى النقطة عبارة عن أشلاء، وهناك عدد كبير من الناس توافدوا إلى النقطة ليطمئنوا عن أقارب لهم أو لمعرفة أسماء من قضوا أو أصيبوا. بصعوبة كبيرة اجتزت الجموع لأدخل، لم يكن القصف قد توقف بل خلال دخولي النقطة سجلت غارة جديدة وإطلاق صاروخين باتجاه منطقة تقع خلف مبنى البلدية.
نزلت إلى القبو، وجدت الكلّ يصرخ ويطلب المساعدة، وقفت بجانب الطبيب لأتلقى التعليمات. بدأت بالعمل، الأغلبية كانوا قد استشهدوا، وحسب ما سمعت من المصابين الطائرة ألقت أربعة صواريخ في منطقة جامع حسيبة، وهذه المنطقة تعد مركزية في دوما ومزدحمة. وجدت امرأة تصرخ وتناديني لأقوم بإسعافها، كانت مغطاة بطريقة عشوائية والدماء تسيل من جسدها. أسرعت إليها، وبدأت بخياطة جراحها. فيما كنت منهمكة بعلاجها كانت تخفف من وجعها برواية قصتها، علّها تشغل عقلها عن الألم. قالت لي: “كنا عند العروس، بدنا نبارك لها بالأمس كان العرس. لا أعلم من بقي حيّاً”. علمت لاحقاً أنها كانت في أحد المنازل التي استهدفها القصف، كان هناك عائلة كاملة من آل شهاب استشهدوا جميعاً، كانوا موجودين في منزل عروسين كان زفافهما الليلة السابقة. أذكر أنه في ذلك اليوم سمعت 8 غارات خلال ساعة واحدة، على ما أعتقد من الخامسة عصراً حتى السادسة.
طلب الطبيب المشرف على النقطة أكياس دم لإسعاف الجرحى، وبدأ المنادي عبر مئذنة الجامع ينادي أهل مدينة دوما للتبرع بالدم. حتى من ضمن المسعفين والموجودين بدأت عملية سحب الدم وذلك للضرورة القصوى. أثناء تجمع الناس بدأت القذائف تنهمر على المدينة. فمن لم يمت بصواريخ الطائرة ربما وجب أن يموت بالقذائف. وراحت مآذن مدينة دوما تحذر الأهالي من التواجد في الطرقات، وعممت ضرورة التزام المنازل والطوابق السفلية. في العمل الإسعافي تنسى أحياناً أنك إنسان، وأن المصاب هو أيضاً إنسان. يختصر عملك على الوقت ومسابقة الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. عدد الجرحى والمصابين والشهداء كان في ازدياد. جثث الشهداء وأشلاءهم المبعثرة هنا وهناك في النقطة. كنت أركض مسرعة من جريح إلى جريح، عندما يكون الجريح طفلاً كنت أتوقف عنده فترة أطول. لا أستوعب ما الذي يحدث حولي أحياناً، يتوقف عقلي عن العمل أحياناً أخرى. مهمتي هي الإسعاف ولكن كلما ازداد القتل والدم أكرر طرح السؤال نفسه بداخلي: لماذا هذا القتل وإلى متى سيستمر؟
توقفت عند طفل صغير. لم أعد أذكر اسمه، أعتقد أنه كان في الخامسة من عمره. اقتربت منه وبدأت بمسح رأسه باحثة عن الجرح الذي سبّب كل هذه الدماء التي غطّت وجهه. لم يتكلم ولم يصرخ، لم ينطق بأي حرف. الصدمة كانت أكبر من عقله الصغير. ولم يبدِ أي استجابة، ضمّدت جراحه وتم أخراجه من قاعة الإسعاف. لم يكن لدينا الوقت أو المكان الكافي.
مضت ساعات عدة، وبدأت عملية إفراغ النقطة من كل المصابين. كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل. لم أعد أستطيع الوقوف، فالخدر أصاب قدميّ من شدة التعب. ذهبت إلى مكتب الاستقبال، لأطّلع على أسماء الشهداء والمصابين الذين تم توثيقهم في تلك المجزرة. أصابتني الصدمة حين علمت باستشهاد ما يزيد عن 80 شخصا وإصابة أكثر من 20 آخرين بعضهم بحالة حرجة. توقفت عند اسمي طفلين هما يوسف وعدنان كريم. شقيقان والدهما كان قد استشهد قبلهما بعامين، أمهما كانت إصابتها طفيفة. كما عرفت من الجرحى عارف زوج صديقتي مروة، لم يمضِ على زواجهما العام ونصف العام فقط.
لم أستطع أن أمنع عيني من البكاء. لم أستطع أن أتابع قراءة الأسماء، هؤلاء ليسوا أرقاماً، هم أبناء وأمهات وآباء لديهم عائلات ينتمون لها. لم أعد أستطيع التحمل أكثر، فخرجت من النقطة واتجهت إلى منزلي وقرعت الباب بقوة. ركضت أمي هلعة وفتحت الباب، فارتميت بحضنها وبدأت أبكي وأقول مات يوسف وعدنان. ورحت أعدّ أسماء الشهداء الذين تربطني معهم صلة قرابة وأمي تردد حسبي الله ونعم الوكيل.
تلك المجزرة وقعت في 10 أيلول/سبتمبر 2014، وعرفت بمجزرة أيلول الأسود.
حنين عبد الرحمن، تركت دراستها في الطب بشري في سنتها الجامعية الثالثة في دمشق، لتذهب إلى الغوطة وتعمل فيها كمسعفة لمدة سنتين. عملت في العديد من النقاط الإسعافية والطبية. ومنذ شهرين اضطرت لترك الغوطة وعادت لدمشق.