لن أسمح باعتقالي مرة رابعة
كنت أعمل على جهازي المحمول, قبالتي ابنتي 17 عاماً تدرس مادة الرياضيات، استعداداً لامتحان البكالوريا التكميلي، كنا في بيت العائلة في الميسات، عصر يوم 27 تموز/يوليو 2013.
تواصل معي على الموبايل أحد الأشخاص ويدعى أبو فهد، كنت قد قابلته قبل فترة وجيزة, اتفقنا على أن ينقل مبلغ ألف دولار، كنت قد حصلت عليه من مؤسسة “نجدة ناو” لأعمال الاغاثة وللمدنيين حصراً، على أن يسلّمها لرئيس المكتب الإغاثي في مدينة حرستا في الغوطة الشرقية. كان إدخال المبالغ عبر حاجز المليحة ضرباً من ضروب المستحيل. أخبرني أبو فهد أنه سيأتي ليتسلّم المبلغ منّي بعد نصف ساعة، عند المؤسسة الاستهلاكية بجانب نادي الوحدة. لم أرتد ملابس الخروج، كان المكان قريباً، اكتفيت بقميصي الأسود وبنطال المنزل و”خفافة” دون جوارب.
كانت الساعة الخامسة عصراً, لم يكن في الشارع سوى أربعة أشخاص، أحدهم يتكلم بالموبايل والآخر يقف بجانب سيارة سوداء، وأبو فهد وشخص آخر معه.
لم تكن هيئة أبو فهد كالمعتاد. أذكره رثّ الثياب مشعث الشعر, لكن هذه المرة كان أنيقاً ونظيفاً. قال لي: “سأعرّفك على الخال”. وكان الخال رجلاً يبلغ من العمر حوالي 35 عاماً، يضع نظارات شمسية.
قلت للخال: “لدي هذا المبلغ وهو لأغراض إغاثية و، أريد إيصاله للغوطة”.
وفجأة انقلب كل شيء, هجم علي الأشخاص الذين كانوا في الشارع. اقتادوني إلى السيارة , خلع أحدهم قميصه ووضعه على رأسي. انطلقت بنا السيارة، لكنني ومن خلال القميص عرفت الوجهة, فرع المعلومات في العباسيين.
أوقفوني في ساحة الفرع وطمشوا عيني. كان المكان مليئاً بالأصوات, كانوا يستلمون أسلحتهم والذخيرة. وجّه لي بعضهم الصفعات على ظهري ورأسي. أحسست بالضياع لكني تمالكت نفسي، كان هذا هو الاعتقال الثالث، وكنت أعلم تماما كيف تجري الأمور.
أدخلوني إلى غرفة, ووجه لي أحدهم قد يكون الضابط أو المحقق، سيلاً من الشتائم والإهانات. قال لي: عاملة حالك الأم تيريزا يا …”
كان الوضع مزرياً، لا أدري لما أصر أحدهم على توجيه الضربات إلى رأسي. كنت أسمع صوت العصا الكهربائية تدنو من أذني ثم تبتعد.
بعدها ساقوني إلى غرفة أخرى. فوجئت بمعاملة الشخص الذي كان فيها. كان لطيفاً ومعاطفاً. سألني بعض الأسئلة الشخصية، دونها على ما يبدو على الكمبيوتر. عندما حان آذان المغرب, أحضر لي شطيرة مسبحة وبندورة. وقال: يجب أن تأكلي لأنهم سيأخذونك إلى مكان آخر، و لن تأكلي قبل فترة من الوقت”.
أتى رجلان بمنتهى الحقارة، زجا بي بالسيارة، أعتقد أنهما اتجها إلى فرع الجوية في ساحة التحرير. تعرضت مجدداً لكم من الإهانات اللفظية من أشخاص كنت أتمنى لو ألمحهم.
وبعد رحلة أخرى بالسيارة. وصلت إلى المحطة الأخيرة, فرع الجوية مطار المزة. كنت مطمشة العينين طيلة ذلك الوقت. لكن في ذاك الفرع اللعين أزالوا الطماشة, أجلسوني على الأرض ساعتين تقريبا. أخذوا بياناتي وحقيبة يدي. سألتهم عن الألف دولار قالوا أنهم ليسوا بلصوص وسيعيدونها عند خروجي. جاءت بعد ذلك إحداهن وهي معتقلة قديمة لتفتشني, وهي التي أخبرتني أنني في الجوية. كان سيُغمى علي من شدة الخوف لكنها طمأنتني بأن فرع المهام أسهل من فرع التحقيق. أخذوني إلى مهجع يشبه البيوت مسبقة الصنع، حجمه صغير جداً لكنه يعج بالمعتقلات النائمات على الأرض, حوالي 30 معتقلة. الغريب أنهن لا علاقة لهن بأي نشاط ثوري. إلّا معتقلة واحدة، وهي صديقتي وكنا نبحث عنها تُدعى رويدة كنعان. أخذ عدد المعتقلات في الازدياد بشكل مريب. نساء كبيرات وصغيرات, فتيات في طور المراهقة وجميعهن يقسمن أن لا علاقة لهن بشيء، تم اعتقالهن من أماكن مختلفة. لكن كان التركيز على نساء الغوطة الشرقية والقابون. كان الاعتقال يتم من حاجز المليحة من قِبل ضابطة تُدعى رنا, تقوم بأخذ مصاغهن وأموالهن ويؤتى بهن إلى الجوية. طبعاً زال الاستغراب عندما أتى العيد وأطلقوا سراحهن فالنظام كان يعتقل عشوائيا ليُقال انه أصدر عفواً في عيد الفطر.
حققوا معي ثلاث مرات, كان المحققان بمنتهى الدماثة لدرجة أنني استبعدت أن أكون في الجوية, ما عدا محقق ثالث يُدعى المقدم سهيل الذي كان يوجه لي أقذع الشتائم .
بعد 14 يوماً استدعوني وسلموني حقيبة يدي، ولدى سؤالي عن الألف دولار قالوا بأنني سأستلمها في المحكمة. فرحت جداً لاعتقادي أنني سأُحول إلى المحكمة، لكن آمالي انهارت عندما توجهوا بي إلى الشرطة العسكرية، ليتم ترحيلي بعد ذلك إلى مخفر شرطة ركن الدين. مكثت في النظارة ثلاثة أيام ليتم ترحيلي مرة أخرى إلى مخفر كفرسوسة، الذي ذقنا به ما لم نذقه بالجوية.
أول الاهانات كانت طريقة التفتيش. فتاة من جنسية عربية من اللواتي يعملن في الملاهي، انتهت مدة إقامتها وتنتظر ترحيلها إلى بلادها هي التي فتشتني. كانت بمنتهى الوقاحة وطلبت مني خلع ثيابي بأكملها. كنت بمنتهى الخجل وبكيت كثيراً بعد ذلك. فتاة بعمر أولادي تنظر إلى جسدي العاري, وتفتشني بطريقةٍ مهينة, مخفر كفرسوسة كان الجحيم بحد ذاته. المساعدان الأولان المشرفان على النظارة كانا بمنتهى سوء الأخلاق. وقابلت هناك المعتقلة ميسا الصالح مراسلة الأورينت. بعد حوالي الأسبوعين تم ترحيلنا جميعاً إلى سجن عدرا المركزي. في شاحنة كبيرة جداً, وجدنا بها عشرات المعتقلات, مكبلات بالأصفاد. أحسست أننا كالخراف, بل كنا خرافاً فعلاً. وصلنا إلى سجن عدرا بعد فترةٍ طويلة لأن الاشتباكات كانت دائرة بين “الحر” و”النظامي” على الأوتستراد، مما اضطرهم إلى سلوك طريق آخر. وزعونا على المهاجع لتعود الدوامة من جديد.
اكتشفت في عدرا أن المال هو أساس الحياة, من كانت تملك المال كانت تستطيع أن تشتري كل شيء. لكنني لم أكن أملك شيئاً مما زاد في غربتي وحزني. تشعر في عدرا أن هناك فوارق طبقية, عند موعد الزيارة كنت أقف عند الباب عسى أن ينادوا باسمي، مع يقيني بأنه لن يتجرأ أحد على زيارتي. فالطريق إلى عدرا كان محفوفاً بالمخاطر والاشتباكات.
أخيراً تم استدعائي لمقابلة أحدهم. محامي كان قد وكّله زوج أختي. بعد عدة أيام من مجيء المحامي، نادوا في الصباح على إسمي للتوجه إلى المحكمة مع العديدات. لدى وصولنا إلى محكمة الإرهاب وضعونا في غرفة أسفل الدرج صغيرة جداً، وكان يتم استدعاء اثنتين في كل مرة للمثول أمام القاضي. حان دوري وجدت زوج أختي يقف مع المحامي في الأعلى, شعرت حينها بالأمان. وكان القاضي بمنتهى اللطف قال لي حرفياً: أفكّر في عدم إطلاق سراحك, لأنهم عندما يعتقلونك للمرة الرابعة لن تري الشمس بعدها. نصحني بالكفّ عمّا أفعله. وأمر بإطلاق سراحي, سألته عن الألف دولار فقال بأنهم لم يسلموا المحكمة سوى ملفي. فكّرت بالتوجه إلى الجوية للمطالبة بالمبلغ، إلا أنني استبعدت الفكرة، فقد كنت مستعدة للتخلي عن مليون دولار مقابل خروجي من تلك المتاهة.
أعادونا إلى عدرا حيث استلمنا أغراضنا ومضينا كلٌ في طريق. عدت إلى الغوطة الشرقية وأقسمت الا أبارحها حتى يأذن الله لي. اكتشفت أنني مستعدة للموت بقذيفةٍ ما على أن أُعتقل للمرة الرابعة.