في الغوطة مطبخ للفقراء

كنا نتناقش أنا وصديقتي نجاة، حول الارتفاع الحاد في أسعار المنتجات والمواد الغذائية، وندرة البضائع. الأمر الذي أدى إلى مجاعة حقيقية في الغوطة الشرقية.
اقترحت نجاة إقامة مطبخ صغير، على غرار المطبخ الذي كانت تشرف عليه في جرمانا لمساعدة النازحين. كنت متخوفة في البدء، فأنا سيدة، وهنا في الغوطة المجتمع متحفظ جداً تجاه النساء. لكني قلت: ولما لا؟ وبالفعل بدأت بالخطوة الأولى.
كان دعم أول طبخة من السيد (ي.ق) رجل أعمال من محافظة السويداء يقيم في دبي. المشكلة أنني لم أكن أملك سوى 100 ألف ليرة سورية، وهو المبلغ المُتبرع به. لا أملك مطبخ أو عدة مطبخ، لكني قمت بشراء المواد الأساسية، من أرز وسمنة وبعض الخضار. وأخذت إذناً من لواء درع العاصمة في حرستا (التابع للجيش الحر) آنذاك. سمحوا لي باستعمال الحلل الخاصة بهم. وقام أبو الفوز وهو الطاهي المعتمد في لواء درع العاصمة، بطهي أول طبخة للمدنيين حصراً. التقطت صور المواد الغذائية، عملية الطهي على الحطب. حين أصبحت الطبخة جاهزة، تمت عملية التوزيع في إحدى حارات حرستا. كان ذاك في شهر شباط/فبراير عام 2014.

سيدة تحمل كيس وتسير في أحد الأحياء في حي الأنصاري في حلب. تصوير: حسام كويفاتية

نشرت التفاصيل والصور، وشكرت للمتبرع الكريم كرمه، على صفحة أسميتها آنذاك مطبخ أحرار السويداء لمساندة أهالي حرستا في الغوطة الشرقية. حازت الصفحة على اعجاب البعض. خصوصاً أن الطعام يُقدم للمدنيين الذين هم الضحية الأكثر تضرراً. وتوالى الدعم، كان الداعمون الأوائل من محافظة السويداء، ثم وصلت الصفحة إلى أعداد أكثر، ما أدى إلى دعمنا بشكل أكبر .
اعترضتني صعوبات جمة، أولها طبعاً كوني امرأة، رغم أن عملي الإغاثي بدأ منذ بداية الثورة، لكنه كان فردياً. أما في هذه المرحلة، فأنا مضطرة للتعامل مع طاقم كامل جميعهم رجال. تعاملوا معي في البدء بشكل متحفظ، لكني استطعت كسب ودهم وثقتهم واحترامهم، وأصبح الكبير والصغير يطلق علي اسم خالتي أم سميح.
لم يقتصر الأمر على كسب ثقة الداخل بل تعداه إلى الخارج، ولولا هذه الثقة لما استمر العمل وتطور.
من الصعوبات الأخرى التي واجهتني، تأمين مستلزمات الطهي. فالبضائع نادرة بسبب الحصار والأسعار مرتفعة جداً. أذكر أني في إحدى المرات ذهبت إلى دوما لشراء مادة الأرز، ولم تكن متوفرة, فاضطررت إلى شرائها من البسطات، وتفاوتت الأسعار بين البائع والذي يليه.
لم يعد الأمر مقتصراً على حرستا، بل تعداه إلى بلدات مختلفة بالغوطة الشرقية، زبدين، دير العصافير، بيت نايم، المحمدية، مرج السلطان، الميدعا، لكن حرستا كان لها النصيب الأكبر .
تطور عمل المطبخ وتحول إلى مؤسسة صغيرة. , تغير الإسم إلى مؤسسة يد واحدة, تُعنى المؤسسة بالطبخ، كفالات الأيتام، هدايا للأطفال في الأعياد، مشاريع صغيرة للاكتفاء الذاتي. قمنا باقتناء عدد من رؤوس الماعز نصنع من حليبها قوالب الجبن. دجاج للاستفادة من البيض حيث بلغ سعر البيضة في الشتاء الماضي 175 ليرة سورية، وكنا نوزع منتجات الحيوانات مجاناً على العائلات.
أصبح لدينا الحلل الخاصة بالمطبخ بعدما قدمها لنا مركز نساء الآن.
نخطط اليوم للبدء بزراعة دونم أرض بالمحاصيل الصيفية، للاستفادة من المنتجات بعملية الطهي.
عملي مدني إغاثي بحت، لخدمة المدنيين الذين ما زالوا صامدين في الغوطة الشرقية. أولئك الذين لا يجدون ما يسدون به الرمق. أولئك الذين تعايشوا مع الخوف والموت. وأنا مصرة على الاستمرار، لأجل أطفالٍ حُرموا طفولتهم، حيث لا يحق للطفل المحاصر أن يحيا كبقية الأطفال. هو مضطر للقبول بما يتيسر، مضطرٌ لقبول لقب يتيم لأن والده استشهد بقذائف تأبى إلا أن تشق طريقها لتروع من لا ذنب لهم. مضطرٌ للوقوف أمام عربة الطعام بانتظار دوره. مضطرٌ أن يحمل وعاء ماء الشرب الأثقل منه لينقله إلى المنزل ويصعد به للطوابق العليا. مضطرٌ إلى اللعب بالعيد في الأقبية لأنها المكان الآمن من القصف.
كثيراً ما أُصاب بالإحباط. لكننا هنا مضطرون إلى تجاوز الألم، فالأمر يجب ان يتعدى حدود الأنا، كي تبقى قادراً على العطاء.