قصة مروة وما تبقى مـن أمــل
امرأة تعمل في قطاف الطماطم في أحد المشاريع الزراعية بالقرب من مدينة حموريه في الغوطة الشرقية، الصور ملتقطة بتاريخ 01-08-2017.
"ذهب زوجها المقاتل مع الجيش الحر وتركها مع ولديها التوأم اللذين لم يتجاوزا الـ 14 عاماً من عمرهما"
الفقد يسبب ألماً فظيعاً، كلما ظننت أنك اعتدته يؤلمك قلبك من جهة لا يمكنك تسكين وجعها. لكن من يستطيع أن يحول الفقد إلى مكاسب فقد فاز. لن نعتاد الفقد مهما حاولنا، لكن ما يصبّر قلوبنا أننا يوما ما سنلتقي. إن لم يكن على هذه الأرض فـسيكون الموعد بدار الخلود.
على هذا الأمل أكمل ما تبقى لي من أيام عمري على هذه الأرض، داخل وطني الذي أقطن فيه. وطـني سوريا الخيرة المنكوبة الحزينة المشبعة بدماء أبنائها.
كنت ضمن آلاف النساء المكلومات بالفقد والحرمان من أغلى مـا بـحياتي. ومن بين النساء المكلومات كانت صديقتي مروة التي سأروي لكم قصتها.
بدأت مروة رحلة ظلمها مع دخول تنظيم “داعـش” إلى بلدتها ومع دخولهم بدأ دمار حياتها وعائلتها. ذهب زوجها المقاتل مع الجيش الحر وتركها مع ولديها التوأم اللذين لم يتجاوزا الـ 14 عاماً من عمرهما. لكن بقائهما لم يطل كثيرا بعد أن أجبرهما التنظيم على الأنضمام لمعسكرات التدريب ليكونا ضمن مقاتليه بعد انتهاء التدريب.
خرجت غاضبة مطالبة بعودة أبنائها إلى حضنها، لكن بدل إرجاعهما تمت معاقبتها بالسجن لمدة 15 يوماً. بعد أن كانت حياتها طبيعية، انقلبت رأسا على عقب. دخل التنظيم بداية بوجهه الحسن ومعاملته الفاضلة وبعد أن أحكم سيطرته، أخرج أنيابه وخلع قناع البراءة، واتضحت حقيقته الخفية …
أغلق التنظيم المدارس والأسواق والمحال التجارية. منع التجول، جند الأطفال ومنع الأهل من رؤيتهم. ضيق سبل العيش على المواطنين.
خرجت مروة من السجن، وبعد وقت قصير أجبرت على الزواج من رجل آخر، ولأن زوجها بحسب داعش مرتد وكافر، فهي تطلق منه شرعاً. وزوجوها لرجل مسلم.
وانقطعت الأنباء عن زوجها، أبو أطفالها منذ خروجه من المنزل. حتى ولديها لم تعد تراهما. ومتى ما طلبت من الزوج الجديد رؤيتهما وب~خها وضربها وشتمها على ذنب اشتياقها ولهفتها على فلذتي كبدها. أجبرها على الصمت ولم تعد تطلب منه رؤيتهما. ولو كان بإمكانه منعها من التفكير بهما لفعل. لكن هذا محال وهيهات أن تنسى.
بعد عملية درع الفرات ودخول أرتال الجيش الحر إلى البلدة، وانسحاب التنظيم من المنطقة خرجت رغما عنها كــأسيرة مكبلة ذليلة، تجر خلفها ذيول الخيبة بأن تجتمع مع عائلتها. وصلت إلى ـمدينة الرقة وبعد مدة قصيرة من الزمن اكتشفت أنها حامل.
كـاد العالم أن يسقط فوق رأسها. عندما علم الزوج الداعشي بهذا النبأ، بدأ يهددها وأرغمها على أن تسقط هذا الجنين. كانت ردت فعلها عادية ولماذا تحزن على خسارة جنين إن ولد سيبقى ذكرى تربطها بهذا الزوج. هكذا فكّرت لشدة ما عانته.
الطيران كثف غاراته على الرقة والأوضاع كل يوم إلى أسوأ. وخلال الغارات كان خلاصها بموت زوجها. كانت مشاعرها بنبأ موته ممزوجة بسعادة واضطراب عارم وقلق قاتم حول المستقبل المجهول القادم. إحساس أليم لا يمكن وصفه، وحدة قاتلة بمكان مجهول لا تعرف فيه أحداً ولا يربطها فيه سوى المآسي .
كان الناس يهربون من جحيم القصف والموت، حزمت أمتعتها، ألقت نظرة أخيرة على ذاك المنزل وخرجت مسرعة. ألسنة اللهب تحرق كل مواجع ذكرياتها. أرادت أن تمسح من ذاكرتها كل ما يربطها ويذكرها بذاك الزوج. فرت بعيداً عن المكان كله، تائهة، ضائعة لا مأوى ولا مكان تلتجئ إليه برفقة أناس مثلها هربوا من نفس الجحيم.
تعرفت خلال تنقلها على عائلة من منطقة قريبة من بلدتها. أكملت الطريق معهم، وبعد رحلة عناء شاقة لا مثيل لها وصلت إلى بلدتها، ووسط أروقة الحي والذكريات راحت تجوب المنازل دامعة العينين مغبرة الوجه تنقب عن بصيص أمل وخبر عن عائلتها
لم تجد إلا السراب، إحساس موجع فقدان كل شيء، موت على قيد العيش والألم. ولـكنها ما زلت تتنفس. رحل زوجها في إحدى المواجهات. أما ولديها قطعة الروح فرحلا أيضا بغارة طيران. جميعهم ذهبوا وتركوها دون أن يودعونها، وهل أصعب من الموت إلا فراق الأحبّة.
ذهبوا دون وداع وغابت ملامحهم للأبد. فقدت أطياف أجسادهم أما أرواحهم فتحلّق حولها. أحياء يبقون ما بقي الدهر وما أمر فراقهم إلا قدر مر كتبه القدر وفرضته الظروف وأمر خالق رحيم. وتلبدت داخلها الجراح بالصبر الذي نما بعد طول ألم.
مع عودة الهدوء نسبيا للمنطقة نـهضت بعزيمة امرأة مؤمنة. بدأت من جديد، نهضت من قوقعة آلامها لتنثر العلم على الأطفال في المدرسة، ولأن الحياة أكبر بـكثير من آلامنا بدأت رحلة العطاء بعد رحلة الحرمان. تشغل نفسها وما تبقى لها من أيام بتعليم الأطفال، بإنارة السبيل أمام الأجيال القادمة .
فاطمة حاج موسى (25 عاماً) من إدلب، طالبة جامعية في معهد الإعلام .