عُدنا… فاستقبلتنا الصواريخ!
بعد معاناتنا مع التنقل من منطقة الى أُخرى، ساقتنا الأقدار أنا وعائلتي، لأن نعود إلى قريتنا. لكنَّ المخاوف كانت تغزو مخيِّلتي، وتضع فيها رعباً هائلاً!
قريتي تقع في منتصف طريق جبهة مستعرة بين إدلب وحماه. وإن احتدمَ القتال على جبهة إدلب، ينال منا القصف… وإن اندلعت الجبهة في حماه، يحصل ما يكفي لإصابة الكثيرين وهدم البيوت.لكنَّ شغفي بمسرح طفولتي وصديقة أحلام شبابي، قريتي الغالية، كان أقوى من كل المخاوف وسوء الظروف.
عُدنا…
وما إن وصلنا إلى مشارف قريتي، حتى بدأت كل الذكريات التي عشتها سابقاً تجيء إلي دفعة واحدة! قريتي غالية علَي، وأحبها، على الرغم من أنَّ القصف لا يتركها، لو للحظة… قلنا وعائلتي بصوتٍ واحد: الحمد لله أننا عدنا إلى قريتنا، وشممنا هواءها.
سنسكن في منزلٍ لأحد أقاربنا، الذي غادر القرية منذ سنواتُ. فمنزلنا هدمهُ القصف.
استقبلنا الجيران بالترحاب… وساعدونا بإنزال الأغراض. كنتُ سعيدة بأنني عدتُ إلى القرية التي ولدتُ فيها وتنفَّستُ من هوائها. وما إن حلَّ المساء، حتى بدأت القذائف تتساقط!
كانَ ذلك من الحواجز المتمركزة في ريف حماه، وخاصة من جهة جبل زين العابدين، الذي لطالما أمطرالقرية بوابل من القذائف، التي قتلت الكثيرين.
كانت القذائف تستهدف أطراف قريتنا، وكأنهُ استقبال بعودتنا! الأصوات عالية ومرعبة… قلنا أنهُ حسبنا الله، فأين سنذهب، ولا يوجد أي مكان خارج القرية، نذهب إليه! عند منتصف الليل، إذ بصاروخ يضرب وسط القرية، ويستهدف منزلاً لأناس أبرياء…
هرعنا من أماكننا، وبدأت سيارات الإسعاف تتوافد إلى مكان القصف… وعلا صوت صفّارات الإنذار، محذِّرةً بأنَّ الطائرة ما تزال في الأجواء، وأنَّ الوضع خطير! ما هي إلا لحظات، وإذ بصاروخ آخر يضرب ذات المكان! فركضنا إلى ملجأ قريب، وقضينا ليلتنا فيه!
كانت تلك الليلة الأولى من وصولنا!
في صباح اليوم التالي، بدأت الأخبار ترد بأسماء الذين استشهدوا في الليلة الماضية، وعددهم عشرة. ستة منهم من عائلة واحدة، فالصاروخ سقط على منزلهم… كما كان هناك العديد من الجرحى قد أُسعفوا إلى المشافي… وأحد المصابين كان قد فقد قدميه بالكامل…
يا لها من ليلة لا تُنسى… يا له من استقبال بعد عودتنا! إستقبال من نوع آخر، ممزوج بالرعب والخوف والدماء… عادت مأساتُنا، مأساة الخوف والرعب… لكن لا جدوى ولا حل! فنحنُ نسلَّم أمرنا لله ، فلن يصيبنا إلا ما كتبهُ لنا.
ولأنَّ كلفةالمعيشة كبيرة جداً، بدأنا جميعاً في المنزل بالبحث عن عمل… لكن كمن يبحث عن إبرة وسط القش! فالوضع متدهور في القرية، ومن شبه المستحيل إيجاد عمل!
فقرَّر والدي الذهاب برفقة أخي إلى تركيا، طلباً لرزق، يؤمِّن لنا عيشاً كريماً. وأنا وأختي، بدأنا بإعطاء دروس خصوصية في المنزل، مقابل أجور بسيطة… ذلك أفضل من حالة العوَز، فمردود قليل أفضل من لا شيء.
وعُدنا إلى حالة الغربة والإنقسام… أفراد العائلة اليوم مشتتون في أماكن عدة! زدْ على ذلك، أجواء القصف المرعب، والهلع المخيِّم علينا… فالقصف يزيد من آلامنا وغربتنا. لكن يبقى إيماننا أقوى من كل الظروف، ولا يمكن أن تُطفئه مخالب الوحشية.
لا بد أن يُشرق فجرٌ جديد… يُبدِّد ظلمة سنين عجاف، وينثر في أرواحنا عبقَ السلام والأمان… ويَلم شملَ كل السوريين، تحتَ جناحيه المُحلِّقَين في سماء الحرية.
رولا عبد الكريم (27 عاماً) من ريف إدلب. تحمل اجازة في علم الإجتماع.