شهادتي أنقذت حياتي!
نساء من مدينة زملكا يمشون على الطريق وتظهر الابنية مدمرة بشكل كامل
"لم يتوقف طفلي عن البكاء منذ نزول السائق... أعصابي احترقت ولم أعد أحتمل!"
كنتُ في طريقي إلى منزلي في دمشق. وكان الهدف إحضار بعض الأوراق الثبوتية وبعض الأغراض الضرورية، والعودة إلى ريف إدلب بعدما انشقّ زوجي عن النظام ونزحنا جميعاً.
وصلنا إلى حاجز الجسر في خان شيخون، كنتُ خائفة جداً وكانت برفقتي جارتي أم أحمد، ومعي طفلي الرضيع…
العنصر على الحاجز سأل السائق: “إلى أين، ومن أين أتيتم، ومَن النسوة؟!” أجابه السائق: “معي سيدة وزوجة ابنها، تريدان الذهاب لرؤية الزوج الذي ما يزال يخدم في جيش الوطن، فهو زميل لكم!”
سمحوا لنا بالمرور… فأسرعَ السائق وأكملنا الطريق. عبرنا على الكثير من الحواجز، وعند كل حاجز كان السائق يضع النقود بأيدي العناصر مع علبة من شراب المتة وعلبة سجائر… وبذلك كنا نكمل الطريق.
مورك، صوران، طيبة الإمام، قمحانة، حماة، الرستن… وهكذا إلى أن وصلنا إلى القطيفة ولم يعترض أحد طريقنا.
في منتصف القطيفة فوجئنا بآلية تعترض الطريق، في الأمام رجلان ضخمان بزي مدني وكل منهما قد حمل بندقية روسية لم أر مثلها من قبل… وفي الخلف، أربعة رجال بذات المظهر، حليقي الرؤوس والأجسام ضخمة، يرتدون نظارات سوداء… هؤلاء مَن يُقال عنهم “الشبيحة”.
نزلَ السائق من السيارة… وتوجه إليهم. كان يحادثهم والرعب يتسلل إلى قلبي. يا آلهي. نظرت إلى خالتي أم أحمد وقلت لها: “أنا خائفة ما الذي سيحصل بنا؟!” ردت بنبرة حادة مع صوت منخفض: “إن بقيتِ على هذا الحال سيكتشفون أمرنا ويحققون معك ويعرفون أنكِ زوجة منشق!”
لم يتوقف طفلي عن البكاء منذ نزول السائق… أعصابي احترقت ولم أعد أحتمل!
قال لهم السائق أنني مصابة بالسرطان، وبأني في طريقي إلى مشفى البيروني في دمشق لتلقي العلاج. لكنَّ هذا الكلام لم يُجدِ نفعاً معهم، فهم يريدون المال ويجب أن يأخذ كل منهم حصته. وافق السائق مرغماً لأنهم لم يعترفوا بالبطاقة التي يحملها على أنه متقاعد كان يخدم مع النظام.
تابعنا المسير إلى أن وصلنا إلى دمشق، حي الزاهرة. قال لي السائق هناك: “يا أختي لن أدخل معكم إلى حي الحجيرة. كما رأيتِ، لا أحد يعترف بالبطاقة التي أحملها!”
صارت الخالة أم أحمد تترجاه، لكن لم يوافق… أنزلنا ومضى.
ضممتُ طفلي وجلستُ على الرصيف أبكي!
لكنَّ أم احمد على الفور أوقفت تاكسي وطلبت من السائق أن يوصلنا إلى الحي!
نظر السائق باستغراب وقال: “هل أنتنَّ مجانين، مَن يدخل حي الحجيرة؟!”
لكن بعدما أغريناه بمبلغ كبير من المال وافق، إنما بشرط، ألا يدخل الحي بل أن يوصلنا إلى طريق ترابي يسمّى طريق البساتين، ومن هناك ندخل سيراً على الأقدام… ووافقنا.
وصلنا إلى الطريق الترابي، لكنّ رصاص القنّاصين كان ينتظرنا…قلت لأم أحمد أن تنصرف مع السائق، وأن أكمل الطريق وحدي، لكنها لم تقبل وأصرّت على مرافقتي.
وصلنا إلى الحي وهناك التقيتُ بجارنا ويُدعى السيد طالب من قرية حاس في ريف إدلب. وكان ما يزال يعمل مع النظام كمساعد في الأمن الجوي، وكان محبوباً في الحي من عناصر النظام.
ألقينا عليه التحية، وكان يحترمني لأني كنتُ مدرّسة أولاده في المدرسة. اصطحبنا إلى منزله، حيث زوجته وأولاده… وهناكَ استنكر انشقاق زوجي، وتجادلنا قليلاً، لكن دون جدوى.
عرضتُ عليه مشكلتي وعن سبب قدومي، ووعدَ بمساعدتي.
بعد قليل دخل ابنه الكبير صارخاً: “الجيش سيحاصر الحي ويدخل ليحرق بيوت المنشقين”!
هنا غبت عن الوعي، لكن أيقظني صوت بكاء إبني!
ذهب السيد طالب ثمَّ عاد قائلاً: “بإمكانك الذهاب إلى منزلك وسأومّن طريقاً لخروجك من الحي”.
وفعلاً رحتُ مع أم أحمد وبعض الجارات بسرعة البرق إلى منزلي وأتينا بالأغراض، ثمّ خرجنا من الحي بسلام… كل ذلك كان بفضل السيد طالب الذي قال لهم أنَّ الأغراض التي معي هي لهُ، ويقوم بتهريبها نتيجة تهديد “الإرهابيين” له بحرق منزله ما لم ينشق عن النظام!
تمت عملية الخروج من الحي ومن دمشق بسلام بعد عناء طويل…إلى أن وصلنا ثانيةً إلى حاجز القطيفة، في طريق عودتنا… ذاك الحاجز الذي لا يدع أحداً بشأنه!
لحسن حظي أني كنتُ أحمل شهادتي الجامعية في حقيبتي…عندَ ذاك الحاجز، وعند حواجز أخرى، كانوا يشكون بنا لاصطحابنا الأغراض بأننا هاربون من دمشق إلى إدلب! وبأننا عائلة منشق. لكني كنتُ أقول لهم أني من قرية قلعة المضيق وهي تحت سيطرة قوات الأسد، وبأني مدرِّسة لدى النظام… كانوا يسألونني عن إثبات لذلك، فكانت شهادتي الجامعية التي تُثبت أني درستُ التعليم، حاضرة.
شهادتي أنقذت حياتي أكثر من مرة، في الأولى حين ساعدني السيد طالب لأني كنتُ مدرّسة أولاده، وساعدتني عند كل الحواجز التي كان لا بدَّ لي أن أثبت لهم مهنتي. تلك الرحلة جعلتني أقوى، وشهادتي كانت مصدر قوتي.
أم زيد (30 عاماً) من ريف إدلب، مدرِّسة لغة عربية. كانت تقيم في دمشق مع زوجها قبل انشقاقه عن النظام والعودة إلى بلدتها. لديها عدّة أعمال تطوعية أهمها التعليم.