خياطة تدوير الملابس!
تعليم الخياطة في مشغل "دارنا" الواقع في حي المشهد بحلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"كنتُ أبتسمُ لها لكنَّ لسان قلبي يقول: "سامحيني يا صغيرتي... سامحيني لأنني أخدعكِ وأسرقُ قرطك الصغير... سامحيني وسامحي والدك لأننا فقراء."
بعد أن اضطرتنا ظروف الحرب لترك بيتنا وأهلنا في بلدتنا قلعة المضيق، ونزحنا إلى إحدى قرى ريف إدلب الجنوبي، وبعد مرور شتاءٍ قاس علينا… أخيراً استطاع زوجي أن يؤمِّن عملاً بسيطاً يُعينناً على تحسين ظروف حياتنا البائسة.
وجدَ زوجي عملاً في مجال صيانة الأسلحة الخفيفة وتنظيفها وتلميعها. ومع أنَّ مردود هذا العمل بسيط جداً، لكنهُ يُعتبرُ إنجازاً بالنسبة لنا، فنستطيع من خلاله أن نُحسِّن من مستوى معيشتنا التي تدهورت، وكنا قد أصبحنا تحت خط الفقر!
لكن في المقابل، صارَ لدي الرغبة في تحسين ظروف حياتنا أكثر فأكثر، وذلك من أجل أولادي… فقرّرتُ البحثَ عن عملٍ خاص بي، خاصة وأنني كنتُ حاملاً بطفلي الرابع الذي شعرتُ بالذنب تجاهه، فكيف سيأتي إلى هذه الحياة البائسة في ظلِّ ظروفٍ لا تليق به؟!
لا أعرف أي عمل سأجد في هذه القرية الصغيرة… ماذا يمكن لامرأة مثلي أن تعمل في ظروفٍ عجزَ حتى الرجال عن تأمين فرص عملٍ فيها؟!
في الفترة الماضية تعرّفتُ على جارةٍ طيبة تعملُ خيّاطةً للملابس النسائية… وقد تطورّت علاقتي بها، ففكّرتُ أن أطلب منها تعليمي الخياطة، فأنا أعرفُ القليل لكن بشكل بسيط…
ترددتُ في بادئ الأمر قبل أن أطلب منها ذلك، لكني فعلتُها. وسألتها إن كانت تستطيع تعليمي الخياطة، فرحّبت بالأمر لأنها تعرف ظروفي. وهذا ما كان…
ساعدتني وعلّمتني دون مقابل… فتعلّمتُ منها كيف أُمسك المقص دون خوف، وكيف أقص القماش، وكيف أُركّب القطع مع بعضها… كنتُ أذهب إليها يومياً لتعليمي، ما عدا الجمعة يوم الإجازة…
وبعد أكثر من شهر، صرتُ أُساعدَها في عملها فأقصُّ لها الأقمشة وأحيكُ على آلتها… كانت قد علمتني كل ما تعرف. ثمَّ نصحتني أن أعمل في مجال إعادة تدوير الملابس المستعملة، فقد شاعت وانتشرت هذه الظاهرة كثيراً بسبب ارتفاع أسعار الملابس الجديدة وخاصة ثياب الأطفال.
نعم أعجبتني الفكرة كثيراً، لكنَّ المشكلة باتت في عدم إمكانية تأمين آلة خياطة بسيطة! لم يكن ثمنها باهظاً، خاصة في محلات الأدوات المستعملة، لكننا لم نكن نملك حتى هذا المبلغ البسيط، وما يجنيه زوجي بالكاد كان يكفينا للطعام والشراب.
هنا عرضتُ على زوجي فكرة أن نبيع القرط الخاص ابنتي بتول، فهو مصنوع من الذهب وبثمنه يمكن شراء آلة الخياطة… ففي السابق كنتُ قد بعتُ خاتمي، ولا نملك الآن إلا قرط بتول!
ترددتُ كثيراً قبل أن أقترح ذلك، ولكن هل من حلٍّ آخَر؟! رفض زوجي الفكرة في بادئ الأمر، فهوَ لا يريد أن نبيع قرطَ ابنتي… فقد كان أول هدية يقدمها لها بعد ولادتها بأُسبوع، ولازمَها أربع سنوات… لكن لم يكن أمامنا من خيار إلا ذلك.
في المساء اصطحبتُ ابنتي ذات الأعوام الأربع إلى محلٍ صغيرٍ في الحي الذي نسكن فيه، واشتريتُ لها قرطاً جديداً مزركشاً وأساور برّاقة… وكلها كانت من الإكسسورات الرخيصة.
عدنا إلى المنزل وأقنعتها أنَّ القرط الجديد المزيّف أجمل من القديم! كان قلبي يحترق وأنا أنزع قرطها المصنوع من الذهب، وأراها سعيدة بذلك وبوضع القرط المزيّف! فهي لم تكن تعلم ما الحكاية!
كنتُ أبتسمُ لها لكنَّ لسان قلبي يقول: “سامحيني يا صغيرتي… سامحيني لأنني أخدعكِ وأسرقُ قرطك الصغير… سامحيني وسامحي والدك لأننا فقراء”.
ذهبت ابنتي لتُري أخويها قرطها الجديد وأساورها الجميلة! وأنا دخلتُ إلى الحمّام، وأغلقتُ عليّ الباب، ورحتُ أبكي وأبكي وأبكي… في المساء بعنا القرط الذي كنا قد قلنا لابنتنا أننا رميناه لأنه قديم… وفي اليوم التالي، ذهبنا إلى محل بيع الأدوات المنزلية المستعملة واشترينا آلة خياطة بسيطة.
صارت الجارة تُخبر زبائنها عني، أنني أعمل في مجال تدوبر الملابس القديمة وتقصير الثياب الطويلة… وفي بداية عملي، كنتُ أطلب أسعاراً رمزية حتى أكسب زبائن أكثر… وبعد حوالي الشهر صرتُ معروفة في القرية على أنني خياطة تدوير الملابس القديمة.
هذه هي مهنتي الجديدة…
إنها مهنة متعبة وشاقة وتأخذ معظم وقتي، بالإضافة إلى قصاصات القماش التي تجدها هنا وهناك في المنزل الذي تملأهُ الفوضى… صرتُ أشعرُ أني أُهملُ أولادي كما لم أفعل من قبل، وذلك لانشغالي عنهم بالعمل… لكنَّ ذلك كان من أجلهم… حصلتُ على القرط الجديد لابنتي بهذه الطريقة، وعملتُ من أجل أن أُساعد أبيهم في تأمينِ حياةٍ أفضل لهم.
نسرين ظافر (ه٣ عاماً)، من ريف حماة. متزوِّجة منذ ُ١٩ عاماً، وهي اليوم أُم لخمسة أولاد. أجبرتها ظروف الحرب على النزوح إلى بلدة معرة حرمة في ريف إدلب.