كنتُ أضربُ ابنتي!
امرأة من الريف الادلبي تحمل أحد أطفالها. تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"لِمَ تضربيني؟ فعندما كنت أطلب من أبي النقود كان يعطيني إياها وهو يبتسم ولم يكن يضربني بتاتاً"
في منتصف فصل الشتاء وسط لحظات البرد القاسية، وخلف جدران منزل أهلي، وحيدةً أنا وأطفالي. مضى شهر على رحيلِ زوجي أحمد…
23 كانون الأول/ديسمبر 2015، حلَّ المساء وحلّت معه ذكريات لا تُنسى. أوجاع لا تكاد تٌفارقني وأملٌ بأطفالي الصغار…
بينما كنتُ أنظر إلى أطفالي، قال لي ابني ليث: “أمي، أنا جائع”. قلتُ له: “لا بأس، سأهيئ لك ولإخوتك وجبة العشاء”.
بدأتُ بإعداد العشاء لأطفالي الجائعين، لم أجد سكر… كيف أُعِدُّ الشاي؟
نظرتُ إلى محفظتي، فلم أجد فيها سوى 200 ليرة سورية، لا تكفي لشراء أي شي! فبعدَ موت زوجي، صارَ أهلي يعطوني المال لإطعام أطفالي. وكنتُ أخجل من طلبه، وانتظرهم ليعطوني المال من تلقاء أنفسهم، لا أطلبه.
كنتُ أسكن في غرفة صغيرة في منزل أهلي مع أطفالي، بينما بقية عائلتي تقطن في بقية الغرف وهي كبيرة وواسعة وأفضل من غرفتي بكثير!
أحسستُ بالحرَج، ولم أطلب من أمي المال كي أشتري السكّر. وخرجتُ من غرفتي باتجاه المطبخ، وأخذتُ القليل من السكّر حيثُ كانت أختي تُحضِّر العشاء لأهلي. عدتُ إلى الغرفة والحرقة تأكل ما تبقّى من أجزاء قلبي…
كان أهلي يرفضون تناول الطعام مع أولادي، لأنهم يعتبرون أنهم لا يُحسنون التصرُّف على المائدة!
انتهيت من تحضير العشاء لأطفالي. تناولوا الطعام وناموا… وأنا بقيتُ مستيقظة، أتذكّر حين كنتُ أتي لزيارة أهلي برفقة زوجي، كيف كنا نحضرُ لهم الكثيرَ من الأشياء، وأذكرُ فرحتهم بأطفالي كم تكون كبيرة… اليوم لا يقبلون حتى أن يتناولوا معهم الطعام!
بقيتُ أفكّر طوالَ الليل، إلى متى سأبقى عبئاً على أهلي؟ وهل سأقبل بالزواج مجدداً، ويأخذ أهل أحمد أطفالي مني؟ لا، فقراري كان أن أبقى مع أطفالي وأن أتحمّل كل ما أُعانيه، وذلك كرمى عيونهم.
أُريدُ أن أبحث عن عملٍ كي أحصل على النقود، لكنَّ أهلي لا يسمحون لي بالخروج للعمل، فالأرامل ناقصات في مجتمعنا، فكيف تخرج ناقصة من دارها؟! هكذا يقولون…
كان زوجي يملكُ قطعةَ أرضٍ مشتركة مع إخوته، قررتُ أن أبيع حصتهُ كي أعيل أطفالي من ثمنها. كل هذا كنتُ أُفكّر فيه في تلكَ الليلة… وبعد أن مللتُ التفكير، رحتُ في نومٍ عميق…
في الصباح، استيقظتُ على أصوات أطفالي… وقد عادت مآساة السكر من جديد! عدتُ وأخذتُ السكر من مطبخ أهلي وحضّرتُ الفطور.
بعدها أتى باسم شقيقُ زوجي لزيارتنا والإطمئنان على أولاد أخيه… ففاتحتهُ بموضوع الأرض واقترحتُ عليه شراء حصّة أحمد منها… لكنَّ أهلي تدخّلوا فوراً وقالوا لي: “نحنُ لسنا مزعوجين من أطفالك، ونقوم بإعالتكم”. حاولتُ أن أقول لهم أنَّ المسألة هي نتيجة رغبتي بالإعتناء بأطفالي لوحدي، وعلَّ ثمن الأرض يسمح لي بذلك.
لم يتفهّموا الأمر… لكني مضيتُ باقتراحي. وافق باسم على الفور… فأحسستُ ببعضِ الأمل! لكن بعد يومين، عاد إلينا مع نبأ رفض إخوته بيع حصة أحمد من الأرض، وقالوا لهُ أنَّ الأرض ستبقى للأولاد حين يكبرون، علّها تكونُ ضمانةً لمستقبلهم.
هنا سكتُ ولم أعد أستطع أن أقول أي شيء… كل الطرق مسدودة أمامي!
كانت ابنتي أحلام تطلب مني أن أشتري لها الملابس، وذلك كبقية زميلاتها في المدرسة اللواتي يشتري لهن أهاليهن الملابس والآكلات التي يحبها الأطفال… كنتُ أقومُ بضربها كلما طلبت مني لباساً أو طعاماً لا أستطيع شراءه… وذلك بسبب المرارة التي تسكنُ في داخلي.
في كل مرة كانت تكرّر عليَّ الطلب، كنتُ أقوم بضربها! ما ذنبها وهي يتيمة، وطفلة صغيرة تريد أن تكون كبقية الأطفال؟ لكنَّ ضربي لها كان من مرارتي ولسوء حالتي النفسية بسبب الظروف التي نمرُّ بها ولعجزي أمام تلبية طلباتها.
في يوم طلبت مني المال كعادتها، وذلك كي تشتري البسكويت… ضربتُها بعدما ألحّت بطلبها، فقالت لي وهي تبكي:
“لِمَ تضربيني؟ فعندما كنت أطلب من أبي النقود كان يعطيني إياها وهو يبتسم ولم يكن يضربني بتاتاً… وكان يُحضرُ لي كل ما أطلبه! سأقول لهُ عندما يعود أنكِ تقومين بضربي!”
هنا تساقطت دموعي واحتضنتُها وطلبتُ منها أن تسامحني… وقطعتُ عهداً على نفسي ألا أضربها ثانيةً! وبصفتي أرملة… كان يأتي إلى قريتنا معونات خاصة بالأرامل، وكانوا يعطونني منها، فأفرَح! كنتُ أبيع ما لا أحتاجه من هذه المواد، وأشتري بثمنها ما يريده أبنائي… لكن سرعان ما كانت تنفذ النقود، في ظل غلاء الأسعار، فيعودُ أنين العوَز من جديد…
لِمَ يحصل كل ذلك معي؟ إنه أشبه بكابوس وأريد الاستيقاظ منه! أُريدُ العودة إلى حياتي الماضية… أُريدُ العودة إلى لحظة أُمسكَ فيها بيدِ زوجي أحمد وأمنعه من الذهاب..
لكنَّ العودة مستحيلة… تحوَّلَ أحمد إلى حلم وتحوّلت حياتي إلى حطامِ زجاجٍ مكسور بعثرتهُ الأيام، دون أن يكون لي أي تدخُّل في كل ما يحصل!
كيفَ أعودُ حرةً وأكسرُ العادات والتقاليد البالية التي تمنعني من العمل لأني أرملة؟ كيف أربّي أبنائي لوحدي وأُعيلهُم لوحدي دون أن يتدخّل بتربيتهم أهلي، أو أن يعيلونهم عنّي؟
كيفَ ذلك والهموم تنهشُ جسدي؟!
أمل محمد (34 عاماً)، ربّة منزل وأُم لثلاثة أطفال. توفيَ زوجها بالقصف وهي الآن تبحث عن عملٍ لإعالة أطفالها. تقيمُ في بلدة النقير في ريف إدلب، بعدما نزحت من سهل الغاب.