قوانين دولة الخلافة تتحكم بمصير المرضى
في أحد دور الاستشفاء داخل الأراضي التركية تنزل يارا الحاج (16 عاماً). تنتظر يارا نتيجة صورة الرنين المغناطيسي التي أجرتها قبل أيام كي تعرف إن كان بمقدورها أن تحلم بحياة تشبه الحياة التي تحلم بها كل فتاة في عمرها.
في بداية شهر حزيران/يونيو 2014، بدأت معاناة يارا التي تقول: “بدأت فجأة أفقد توازني وتنتابني رعشات تهز جسدي هزاً، وكأنني أرقص. بدأت أشعر أني غير قادرة على الكلام، أتمتم بأشياء لا أفهمها. كنت في طريقي للجنون في ذلك الحين”.
مرّ وقت طويل قبل أن تكتشف يار أنها مصابة بداء الصّرع، وأن الكابوس الذي كان يهاجمها بين الحين والآخر لم يكن إلّا نوبات صرع جزئية، تحولت لاحقا إلى نوبات صرع معممة. رائد الحاج ابن عم يارا ورفيق رحلة علاجها، من ديرالزور إلى الرقة ومن ثم إلى تركيا، يرد السبب في تدهور حالة يارا إلى عدم وجود طبيب أخصائي أمراض عصبية في المناطق التي تسيطر عليها الدولة الاسلامية من مدينة دير الزور. ويقول “في الحقيقة لا يوجد أي أخصائي الآن في مدينة دير الزور”.
يارا ليست إلا واحدة من الآلاف الذين يئنّون تحت جحيم قصف طائرات النظام والقوانين الجائرة لتنظيم الدولة الإسلامية، في معمعة الحرب الشرسة بين الطرفين تفقد يارا واقرانها حتى حق الحياة.
عقب سيطرة الجيش الحر على أجزاء من مدينة دير الزور في حزيران/يونيو 2012 وتموز/يوليو 2014، تولّت الهيئة الطبية ومن بعدها المكتب الطبي الموحد إدارة الملف الطبي في المدينة. ونجح المكتب الطبي نجاحاً باهراً في تأمين العناية الطبية للمدنيين والمقاتلين على حد سواء ضمن الإمكانيات المتاحة في ذلك الوقت، حتى انتقال السيطرة إلى قوات الدولة الاسلامية.
أبوعمران أحد الأطباء العاملين في المدينة قال لـ”دماسكوس بيورو”: “لم نأل جهداً في تخفيف آثار الحرب المدمرة على المدنيين خصوصا، جميع الخدمات الصحية كانت تقدم بالمجان، من لحظة دخول المريض إلى النقطة الطبية وحتى الأدوية وخدمات الاستشفاء كلها كانت تقدم بالمجان”.
المكتب الطبي الموحد الذي كان يقدم خدماته بالمجان، كان يضم جملة مشافي وعيادات وصيدليات منها مشفى الشهيد زياد صفوك الذي تم إنشاؤه في مبنى فارمكس حيث كانت المؤسسة العامة للاستيراد والتجارة الخارجية، مشفى الشهيد يمان حداوي في حي الشيخ ياسين، مشفى الأطفال ودار عائشة للتوليد وصيدلية الشهيد أحمد فتيح، ومركزي علاج فيزيائي وعيادتين لطب الأسنان.
بعد سيطرة الدولة الإسلامية على المدينة، تغيرت الأحوال، وطالت حملات ملاحقة المرتدين الكادر الطبي أيضاً. واعتقلت ميليشيات التنظيم الدكتور رضوان السالم فور دخولها المدينة بتهمة الردة والعلمانية، وما يزال مصيره مجهولا بعد مرور اكثر من ثمانية أشهر على اعتقاله رغم تناقل أخبار عن إعدامه، وهو واقع حال الدكتور صالح الحاج خضر المعتقل منذ ثلاثة أشهر.
مارست الدولة الإسلامية الكثير من التضييق على عمل المكتب الطبي وجميع نقاطه، ترسيخاً لاعتقاد سائد لدى جميع عناصر التنظيم أن جميع المؤسسات التي كانت موجودة قبل سيطرته هي مؤسسات علمانية وفاسدة.
ويقول الدكتور أبو عمران “تم إبلاغنا بوقف التعامل مع المنظمات الأجنبية الغربية الكافرة، إلّا بعد أخذ موافقة أمير الشؤون الطبية في ولاية “الخير”وهو الأسم الجديد لدير الزور بحسب التقسيمات الأدارية للدولة الاسلمية ،المدعو أبو عثمان” في ذلك الوقت . وكان أبو آدم المصري أمير الشؤون الطبية لمدينة الخير قد أعلن وفاة المكتب الطبي رسميا في بداية شهر شباط/فبراير من عام 2015، هذا الإعلان الذي أعقب إعلان الدولة الاسلامية وقف التعامل مع جميع المنظمات الطبية، حتى تلك الحاصلة على ترخيص عمل داخل أراضي دولة الخلافة، مثل ميديكال ريليف. بعد اعتقال بعض افراد كوادرها المتواجدين في سوريا منذ نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2015، ولا يزال بعضهم معتقلاً.
ساهمت هذه العوامل في هجر الكادر الطبي لأراضي دولة الخلافة، وتقلص عدد الأطباء العاملين في مدينة دير الزور من الاختصاصات المختلفة، ليقتصر الأمر على طبيبين إثنين أحدهما جراح والآخر طبيب أمراض داخلية.
وتولّى ديوان الصحة التابع لتنظيم الدولة الاسلامية تصريف الأمور الإدارية الطبية، وقام بتغييرات كبيرة في هيكلية العمل الطبي، أخذت في معظمها طابعاً سلبياً سواء على عناصرالكادر الطبي أو على المواطنين.
أغلق ديوان الصحة مشفى الشهيد يمان حداوي بالقوة. أبو محمد الخيري أحد عناصر المكتب الطبي الذي بايع تنظيم الدولة مدعوماً بدورية من الشرطة الإسلامية طرد الكادر الطبي، قبل أن يتم تعديل القرار بتحويل المشفى الى عيادة داخلية. وتم نقل أغلب كادر المشفى الى مشفى الشهيد زياد صفوك الذي اصبح يحمل اسم مشفى الفاروق، بحسب أوامر ديوان الصحة.
أغلق التنظيم عيادات طب الأسنان المجانية، وطرد معظم موظفي الصيدليات المجانية، التي باتت مجانيتها تقتصر على تقديم الأدوية لعناصر التنظيم، الا في بعض الاستثناءات، ماشكل عبئا مادياً ثقيلاً على كاهل المواطنين.
ابو اسحق 69 عاما يعاني كما زوجته من الربو، وارتفاع في الضغط الشرياني، وارتفاع في نسبة شحوم الدم. يقول أبو إسحق أن اغلاق الصيدلية المجانية في وجه المواطنين المدنيين أجبره على شراء أدويته بقيمة خمسة آلاف ليرة سورية، وبمعدّل شهريّ، وهذا مبلغ كبير شهرياً. ونتيجة ذلك يقوم أبو إسحق بتخفيض جرعات الدواء الموصوفة له ليخفض التكاليف الباهظة للأدوية.
وبحسب احصائية معتمدة من قبل المكتب الطبي الموحد فإن أكثر من 1000 مريض من أصحاب الأمراض الدائمة كانوا يتلقون علاجهم من الصيدلية المجانية أسبوعياً، إضافة إلى بعض من أجريت لهم عمليات زرع أعضاء، إضافة إلى أطفال مصابين بأمراض مختلفة محرومين من أدويتهم إلّا الميسورين منهم وهم قلة بطبيعة الحال.
وفي إحصائية أخرى للمكتب الطبي فإن مراجعي العيادات كانوا يتجاوزون 150 يومياً، جميع هؤلاء باتوا يدفعون مقابل الخدمات الصحية التي كانوا يتلقونها بالمجان منذ زمن ليس بالبعيد.
يبدو العلاج المجاني في تركيا خياراً جيداً ليارا، ولكن هناك الآلاف لم يسعفهم حظهم أو وضعهم المادي في الوصول إلى تركيا. والتمسك بأمل البقاء على قيد الحياة ليس متاحاً في سوريا.