عندما سجنتني أمي ونبذني الجميع
في لبنان طفل يجلس على طريق قرب مخيم للاجئين السوريين - تصوير أحمد الخليل
"حين شاع الخبر وبدل أن يكون التعاطف معي هو رد الفعل الطبيعي، تعرضت للنبذ من الناس. وكأنني أنا المذنبة، كيف أفهمهم أنني الضحية؟ كيف لي أن أقنعهم أنه لا ذنب لي بما حصل؟ "
تتوق نفسي لأن أمسك قلما وورقة، أو أقرأ كتابا بكل جوارحي كما كنت أفعل في الماضي.
بعد تلك الحادثة قبل سنوات، راح مني حلمي الدراسي دهساً تحت الأقدام. قذفتني تلك الحادثة إلى غرفة منعزلة، أشبه بالزنزانة، أقضي فيها أيامي برفقة الملل. ماهي إلّا مكان مظلم، يتصدر جداره المهترئ نافذة خشبية مغلقة، معاكسة لباب لا يفتح إلا في وقت الوجبات.
غرفة بعيدة عن الجميع. لا تلمح عيني بشراً إلّا أمّي التي لم أعد أرى فيها إلا صورة السجان. وإذا ما هممت بالخروج منها، فالحمام هو المكان الوحيد المسموح لي به.
أمضي وقتي بالبكاء على ذكريات جميلة لا تفارق مخيلتي. تعيدني لأوقات قديمة مرت علي في المدرسة. آنذاك كنت طالبة مجتهدة، وكان كل همي أن أجتاز امتحان الشهادة الثانوية بنجاح. تحقق طموحي وبدأت أستعد للمرحلة الجامعية التي كنت سأكملها في إدلب.
كنت أسعد إنسانة. لكن لم أعلم وقتها أن تلك الأيام ستكون بداية تعاستي. حينها كانت إدلب تحت سيطرة قوات النظام الحاكم في دمشق. بينما أنا من المناطق المحررة، الأمر الذي أقلق عائلتي ودفع البعض منهم لأن يعارضوا رغبتي. إلا أن طموحي كان أكبر من خوفهم.
في بدايات شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012، انطلقت إلى إدلب. الأحلام الوردية التي كانت تؤنسني طوال الطريق، فجأة قاطعتها بشكل مخيف نبرة الضابط الحادة: “من أين أنتم؟ من جماعة الحرية الإرهابيين؟” أجبته وأنا مطأطأة الرأس: “أنا جئت إلى هنا لأدرس”. مباشرة أعاد لي بطاقتي الشخصية بعد أن أطلق في وجهي صرخات أرتجف لها كل جسمي. حينها صوت ما في داخلي قال لي: المكتوب ظاهر من عنوانه.
وفعلا هي سلسلة طويلة من التعب رافقتني يومها، من تفتيش وحواجز إلى معاملات وأوراق وغيرها. بعد أن أتممت مرحلة التسجيل بالجامعة، تذكرت أنني يجب أن أؤمن مكاناً أنام فيه. فتوجهت إلى السكن الجامعي، لكن لم يسمح لي بدخوله.
بعد صعوبة بالغة وجدت مكاناً يؤويني عند سيدة خمسينية. استقبلتني بوجه حسن، ومن الغريب أنها لم تقبل أن تأخذ مني مالاً. وما إن حل الليل، حتى انهالت علي بالضرب بدون رحمة حتى أفقدتني الوعي. صحوت عند الصباح على صوت رجل غريب. سجائر ملقاة حولي بشكل عشوائي. رأيت نفسي بمشهد علمت من خلاله أنني لم أكن سوى القربان الذي قدم لذاك الوحش بدون شفقة.
كانت عذريتي هي ثمن ذاك السكن. لم أتمالك نفسي بدأت بالصراخ، ركضت السيدة إلي محاولة تهدئتي بوضع مبلغ كبير من المال بيدي وقالت لي: لو تبقين معي سيكون لكِ كل ما تريدين. وعندما باءت محاولاتها بالفشل، طردتني من المنزل.
مشيت في الشارع بخطوات متعبة وملابس ممزقة. مطأطأة الرأس يأكلني الخوف، جسدي منهك تنهشه نظرات الاستغراب أينما توجه. عيناي تدمع بألم.
سمعت تعليقا من أحد المارة أصابني بجرح لا يندمل: “لا بد أنها كانت برفقة أحد العساكر”. لم أعلم أين أتوجه ولمن الشكوى. فأنا لا أعلم من هو ذلك الرجل ولا أعرف أحداً هناك. اكتفيت بالبكاء، وعدت إلى قريتي حاملة معي العار الذي لطّخ اسم عائلتي.
عندما علم إخوتي بما حصل لي أصابتهم الصدمة. أمي كادت أن تقع أرضاً، عجزت قدماها عن حملها. أما أبي فخفض رأسه وهو الذي كان يحدثنا دوما عن الفخر والكرامة، وغطّى وجهه بيديه. ربما هم يتمنون موتي بعدما ما حصل لي.
حين شاع الخبر وبدل أن يكون التعاطف معي هو رد الفعل الطبيعي، تعرضت للنبذ من الناس. وكأنني أنا المذنبة، كيف أفهمهم أنني الضحية؟ كيف لي أن أقنعهم أنه لا ذنب لي بما حصل؟ أصبحت أسيرة لعار حرمني من أبسط حقوقي، وأثّر سلبا على فتيات أخريات صفعن بقصتي عندما أعربن عن رغبتهن بدخول الجامعة، فدفنّ رغبتهنّ كما فعلت أنا قبلهنّ.
كم أشمئز عندما أذكر عرض تلك المرأة علي للعمل معها في تلك الحقارة. إن اعتبرت أن هناك حالاً أسوأ من الذي أنا فيه، بالتأكيد فهو حال من تقبل أن تمشي بطريق الضلال تلك.
بعد أن مرت فترة طويلة من الصمت المطبق، لم أعد أحتمل طلبت كتبا أقرأها كي أملأ وقتي. كما طلبت أوراقاً وقلماً. رفض أهلي توفيرها لي بداية، فازداد عنادي وأضربت عن الطعام حتى نفذوا طلبي.
سيأتي اليوم الذي أعود به إلى حياتي السابقة بشكل طبيعي. حين ينسى أهلي والناس تلك الحادثة البشعة. إلا أن هناك أسئلة كثيرة تراودني دائماً. متى سيأتي ذلك اليوم؟ ماهو حال الفتيات اللواتي وقعن في نفس مصابي؟ ما عددهن؟ من سيأخذ حقنا نحن ضحايا غياب القانون ويؤهلنا للاندماج في المجتمع من جديد؟
سيرين المصطفى (22 عاماً) من ريف إدلب تحمل شهادة جامعية وتعمل في مجال الكتابة والأعلام.