عدنا إلى سوريا
جلسات تعلم القواعد النظرية للخياطة في مشغل "دارنا" في حي المشهد بحلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"كانت أخباره قد انقطعت عني لما يزيد على الشهر، ساورتني في تلك الفترة أبشع الأفكار وأكثرها سوداوية"
“تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”. حياتي أصبحت هكذا خارجة عن إرادتي. كنت أحلم أن أصبح تلميذة جامعية منذ أن كنت فتاة صغيرة، وقد حصلت على فرصتي، لكن بعد عدة مشاكل واجهتها.
رفضت فكرة الزواج حتّى وصولي إلى المرحلة الجامعية. تسجلت في جامعة حماه. درست أول فصل من السنة. تقدم لي شاب يخدم في كتيبة الأمن المركزي في حلب. وفي بلدة حاس كان الرجل الذي لديه وظيفة، في الدولة خصوصاً، معيشته هانئة ومستقبله آمن، وأغلب الفتيات يرغبن بالزواج منه.
وافقت على الزواج. كانت الفرحة لا تفارقني في تلك الأيام. حصلت على ما كنت أحلم به في حياتي. وبعد أن قضيت فترة الخطوبة، تزوجت. كان عمل زوجي يوم دوام ويوم عطلة، ويتقاضى 16 ألف ليرة سورية.
بعد الزواج بأشهر قليلة بدأت شرارة الثورة السورية. في 15 آذار/مارس 2011، جابت المظاهرات جميع المدن. كانت أوامر زوجي بقمع المتظاهرين واعتقالهم. كان يقول لي دائماً : “الحزن والقهر لا يفارقني على تلك المظاهرات، لكنني أعمل قدر المستطاع على مساعدتهم وإعطائهم فرصة للهرب، ولكن بدأت أشعر أن هناك من يراقبني”.
كنت أشعر بالخوف والقلق عليه كثيراً. لا يفارقني هذا الشعور إطلاقاً، بعد أيام أمروه بالذهاب إلى السكن الجامعي واعتقال الشباب وحتّى الطالبات ايضاً. قال لي يومها: “عندما رأيت تلك المشاهد أصبح لدّي دافع كبير للانشقاق”.
وفي 5 نيسان/ابريل 2011 كانت مهمته الذهاب إلى جسر الشغور حسب ما روى لي بعدها بفترة: “عند قرية فريكة تعرضت لنا شاحنة في بداية الرتل، وأخرى في نهايته. بدأ ضرب الرصاص علينا من قبل الثوار”. تنهّد وأكمل: “الباص الأول والثاني قضى من فيه. وجدت أن هذا أفضل وقت للانشقاق فزملائي يظنون أنني مت في تلك المجزرة، اختبأت في طرف الشارع وفجأة رأيت رجل من الثوار أعرفه فذهبت معه”.
عندما علمت بخبر انشقاقه بعد تلك الحادثة شعرت بالاطمئنان والفرح لنجاته. كانت أخباره قد انقطعت عني لما يزيد على الشهر، ساورتني في تلك الفترة أبشع الأفكار وأكثرها سوداوية. إضافة إلى الفرح بنجاته شعرت بالخوف عليه، لأن منطقتنا مليئة بحواجز النظام.
أمضى زوجي مع الشباب المطلوبين نحو شهر داخل المخبأ، وهو عبارة عن بئر عميق. كنا نقوم بإنزال الطعام لهم بواسطة الحبل. كل ثلاثة أيام كان يأتي إلى لمنزل لساعة واحدة، ومن بعدها يعود إلى المخبأ.
أصبح غير قادر على التجول والبحث عن عمل. أنفقنا كل ما كنا نملكه على معيشتنا ودفع بدل إيجار المنزل. بعدها حلّ فصل الشتاء قضيت أنا وأبنتي إيلاف تلك الشتوية القارصة بين أهلي وأهل زوجي لأننا غير قادرين على شراء المازوت.
عند الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء في 7 آب/أعسطس 2012، كنت أحضر طعام الإفطار. سمعت طرقاً على الباب بشدة. كان أخي يصرخ: “هيّا بسرعة، الثوار سيهاجمون الحواجز هنا في البلدة وفي القرى المجاورة. أسرعوا لنختبئ مع أهلي في الكهف المجاور لنا”. تركت كل شيء من يدي، وأخذت أبنتي وركضت بسرعة.
وبعد هربنا بنحو 20 دقيقة بدأت المعركة. رد حواجز النظام ومواقعه على الهجوم بحملة قصف عنيف. كانت أول قذيفة من نصيبنا. سقطت أمام باب الكهف الذي كنا بداخله عند آذان المغرب. لم نسمع سوى صوت انفجار قوي، ورأينا الغبار الكثيف أمامنا. وكأننا نعيش داخل فيلم رعب.
خرجنا مسرعين، تركنا الكهف وتوجهنا إلى البلدات المجاورة البعيدة. وفي طريقنا إلى بلدة البارة رصدنا أحد الحواجز وهو حاجز “زمو” وبدأ باستهدافنا بالرصاص، صرخ بي زوجي لنختبئ.
وبعد ثلاثة أيام متتالية هاجم الثوار الحواجز وحرروها. طيران النظام كان يحلق كسرب طيور فوق منطقتنا.
دفعنا الخوف وعدم الاستقرار، وانعدام الأمان وقلة المال للسفر إلى تركيا. هناك أمضينا سنتين حيث انجبت طفلي الثاني. وعدنا في ما بعد إلى سوريا، لنسكن في منزل يدفع أقساطه زوجي، من راتبه الذي يبلغ 15 ألفاً، يتقاضاه من الجيش الحر، بعدما انتسب إليه.
هذا الواقع دفعني للبحث عن أي فرصة عمل تتاح لي، لأشتري المازوت في المرحلة الأولى، إلى جانب منزل يحفظني أنا وعائلتي، والتخلص من بدل الإيجار المزعج لارتفاع أقساطه.
مريم العبدالله (23 عاماً) تعمل في مجال الاذاعي والاخباري. تركت دراسة الادب العربي في جامعة حماة بسبب المعارك. متزوجة ام لولدين وتعيش في ريف إدلب حاليا.