الأغنية الكردية في سوريا تعود من التراث الممنوع إلى الحاضر
كان سعد فرسو (58 عاماً) وضيفه المطرب الكردي شفيق أبو رعد (70 عاماً) يستذكران أغنية “بائع السلال” أو “زمبيل فروش” (Zembîl Firoş) وهي أغنية فولكلورية من التراث الكردي، والتي تتوارثها الأجيال من دون معرفة من كتب الكلمات أو حتى من كان المغنّي الأول أو صاحب الألحان. حال هذه الأغنية هي حال الكثير من الأغنيات التراثية الأخرى، في منطقة كانت تمنع تدريس اللغة الكردية. ويقول سعد فرسو في محله المتواضع لبيع الآلات الموسيقية وحيث يقيم دروات لتعليم الموسيقى على طريق عامودا: “الأغاني التي بقيت محافظة على نفسها حتى اليوم هي ما نسميها بالأغاني الفلكلورية، لكن تلك الأغنيات لا تزال مجهولة من حيث كاتب الكلمات والملحن… اندثر قسم كبير من هذه الأغنيات نتيجة النسيان أو عدم الاحتفاظ بها في الأرشيف”.
من جهته يقول أبو رعد: “قديماً كانت المجالس والمضافات والساحات تعج بالحضور، فيأتي أحدهم ليغني، ثم يقوم آخر بحفظ الأغنية وإيقاعها فينقلها ويغنّيها في جلسات أخرى، وهكذا استمرت الأغاني الفلكلورية دون معرفة صاحب الكلمات”. ويضيف “حين نقول فلكلور نقصد تلك الأغاني التي انتقلت من جيل إلى أخر منذ عقود عديدة، أما التراث فهي الأغاني التي تعود إلى حوالي ربع قرن فقط”.
ويلفت الرجلان في حديثهما إلى أن ثمة من حافظ على تلك الأغاني مثل تمر علي، سلوكورو، رفعت داري، محمد عارف، وهؤلاء نخبة من الذين كانوا يُكررون الأغاني القديمة وينقلونها إلى الأجيال اللاحقة، على الرغم من مجهولية المصدر الأساسي. وتُعتبر أغنية “هيا إلى الرقص” أو “ورين ديلاني” (Werin Dîlanê) من أشهر الأغاني الفلكلورية، وهي تستخدم اليوم في العديد من المناسبات.
تطور الفن الكردي وتحديداً الأغنية عبر التاريخ، فكان اللحن يتغيّر لأكثر من مرة بحسب الفترة الزمنية، والآلات المستخدمة، والفنان، والجيل. المتسابق عمار كوفي في برنامج الهواة عرب أيدل استعاد إحدى أشهر الأغاني الكردية وهي مدرجة ضمن إرشيف أغاني الشعوب في الأمم المتحدة وهي أغنية “إيز كيفوكيم” (Ez Kevokim) إضافة إلى أغنيتين للفنان محمد عارف جزراوي، واللافت أن هذه الأغاني لاقت الاستحسان رغم أنها من الفولكلور ولكنها كانت خليطاً بين خامات صوتية وألحان شبابية.
وعن أنواع الأغنية الكردية في سوريا يشير أبو رعد إلى ارتباطها بنوع العمل الذي يؤديه المغني، ففي أيام الحصاد كان المتمتع بالقوة العضلية ومن يقود فريق الحصاد، يردد على رفاقه الأغاني الحماسية والتي تُزيد من الرغبة في العمل. وحين كانت النساء يخرجن للعمل في جمع الأغصان، قطاف القطن، قطف الثمار، الرعي، حلب الأغنام. كانت أغاني الحب والعتابا خاصة مع وجود مزمار الراعي. وميزة هذه الأغنيات العاطفية، أن الأنثى الكردية كانت تخجل من إظهار حبها أمام أهل بيتها فتخرج للبرية والعمل وتطلق العنان لحنجرتها والغناء. وهناك أغاني “دستار” (Destar) حيث جرت العادة قديما أن تساعد الشابة والدتها في عملية طحن القمح أو الشعير، وللتسلية كن يقمن بالغناء. إضافة إلى ما سبق يمكن الإشارة إلى أغنيات الموت، الغناء على قبر الفقيد والتغني بأمجاد وصفات ومناقب الراحل. وأبرز من اشتهر بهذا النوع من الغناء كانت عدلة جارو من أهالي هرمي عربا في ريف القامشلي.
كما هناك في التراث تلك الأغنيات المخصصة لاصطحاب العريس لعروسه من بيت أهلها للمرة الأولى. حيث تغني النسوة والعريس مرفوع الرأس لأنه قدم كل مستلزمات وشروط أهل العروس وجهز الولائم والهدايا فكان يسير دون اكتراث بأحد كدليل على كرم أهل العريس. كما لا يغيب عن التراث الغنائي لكردي الميجانا والعتابا. حيث تعاتب الحبيبة حبيبها لسفره أو عدم تمكنه من خطبتها، أو تعاتب الفتاة أهلها لعدم قبولهم بحبيبها للزواج بها أو رفع مهرها أو تزويجها عنوة.
ووتنوع الأغنيات الكردية حتى أن بعضها يبدو ملحميا وطويلا وبمثابة قصة مثل أغنية “سيامند وخجي” (SÎYAMEND Û XECÊ) وفرهاد وشيرين (ShiRin va Farhad) وهي أغنيات تتحدث عن الحرب والغزوات بين طرفين مثل غزوات شمدين وحمدين وجتلي اغا وتمجد هذه الأغنيات أشخاص يتمتعون بالشجاعة والإقدام وإمكانية محاربة عدد كبير من الغزاة. إضافة إلى أغاني الرقص قديما كان لكل رقصة أغنية خاصة.
ولا يمكن الحديث عن لأغنية الكردية من دون التطرق إلى الفولكلور الراقص المصاحب ويسمّى “الدبكة”. وهي إيقاع خفيف كان يسمى يمين، وإيقاع ثقيل كان يسمى يسار. كل إيقاع كان يقابله حركة جسدية، اليوم اندمجت جميعها في إيقاع للرقص الكردي معروف بـ “كرمانجي”. وكان هناك ألحان ونغمات لها علاقة محددة بحركات الجسد مثل بشار وبشير ورقصات خاصة تمايل، قيام وقعود، وحركات أرجل.
وللأغنية الكوردية مجموعة من المقامات الأساسية بحسب سعد فرسوا وهي بيان، كورد، عجم، صبا، راست، حجاز. أما أشهر الآلات الموسيقية والمستخدمة حتى يومنا هذا فهي الطبل والمزمار أو “داهول وزرنا (Dahol û Zirne)، الطمبور (Tembûr)، الناي أو بلور (Bilûr)، الكمنجة (Kemençe) وجمبش (Cimbeş).
في سوريا كان ممنوعاً الغناء باللغة الكردية في الساحات أو المناسبات العامة. وكان الفنانون يتعرّضون للملاحقة بعيد غنائهم في عيد النوروز مثلاً. واقتصرت الأغنيات على الأعراس. اليوم ومع استعادة الأكراد لحقهم بتدريس لغتهم سواء في مكاتب المنظمات الطلابية أو مكاتب الأحزاب أو في المدراس، عاد للأغنية الكردية بعض حضورها، وإن كان أغلب الفنانين والملحنين يشكون من إهمال الأغنية القديمة نتيج طغيان الأغنية الغربية أو الكردية الحديثة.