أن تتماسكي من أجل أبنائكِ…
نساء يتفقدن مكان استهداف الطيران الحربي لاحد منازل اقربائهم - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"أنا لستُ امرأة قوية، ولكنّي أمٌ مسؤولة عن ثلاثة أطفال، يجب أن أتماسك أمامهم، مع أنّ في داخلي احتراق!"
انشقّ زوجي عن النظام، في الأول من آب/أغسطس 2012، بعدما كان يعمل شرطياً… وكانت محطتنا الأولى في الفرار بلدتي حيش. ثمَّ انتقلنا بعد فترة وجيزة إلى بلدة معرة حرمة، حيثُ يسكن أهلُ زوجي.
كان من المفترض أن تكون محطتنا الثانية أكثر أماناً، لأنّ معرمة حرمة كانت تخلو من حواجز الجيش. لم يكن أمامنا من خيار، سوى أن نسكن مع أهل زوجي في منزلهم البسيط المكوّن من غرفتين ومطبخٍ صغير. فنحنُ لا نمتلك أي مأوى آخَر، ولم نصطحب معنا أي أثاث منزلنا.
فوجئنا فور وصولنا إلى البلدة، بأنّ شقيق زوجي كان أيضاً قد انشقَّ عن النظام، بعدما كان عسكرياً. وبالتالي، سبقنا إلى منزل أهله، مع زوجته وأولاده… فصار يمكث في المنزل ذي الغرفتين، ثلاث عائلات!
وكان علينا جميعاً أن نتفهّم هذه الظروف… وبشكل خاص أنا، من أجل أبنائي الثلاثة.
بعد أقل من أسبوع نزحت إلى البلدة، ثلاث عائلات من أقارب والدة زوجي. قدموا من مدينة كفرنبل التي كانت تدور فيها معارك طاحنة بين النظام والثوّار، إلى منزل أهل زوجي، ذي الغرفتين!
أصبحنا ست عائلات معاً في غرفتين فقط! ينام الرجال في غرفة، والنساء في غرفة أخرى.
ومكثت العائلات القادمة من كفرنبل لفترة طويلة… نتيجة تحرير المدينة في 10 آب/أغسطس 2012، وتصاعد عمليات النظام عليها، انتقاماً من أهلها.
زوجي وأخوه كانا يبحثان عن عملٍ في البلدة، لكن أي عمل هذا في بلدة صغيرة؟
صحيح أنهما قاما بحفر بئر مياه لأحد سكان القرية… لكنّ ذلك لا يُعتبر عملاً مستمراً، فهو لم يدم إلا لأيامٍ قليلة…
أحسست أن من واجبي أن أتحرَّك وأبحث عن عمل، فأطفالي لا يعرفون إلّا أنهُ يجب أن يأكلوا حين يجوعون.
أخبرتني جارة أنّ هناك امرأة توزّع أقمشة للتطريز بالخرز… وأنها تسكن مقابل مدرسة البنات. في اليوم التالي، اتجهتُ برفقة إبني الصغير إلى منزل تلك المرأة.
حين وصلت إلى مدرسة البنات، سألتُ رجلاً يقف أمام محله عن منزل المرأة… فأشار لي على بابها. ولم يكن المنزل يبعد كثيراً…
أذكر حينها، كانت عيون الناس في الشارع تراقب الطائرة الحربية، كيف أنها تنقض بغاراتها على كفرنبل…
قرعتُ باب المرأة، وسألتها عن العمل في التطريز. وبقينا واقفتين نتحدث وبجانبي إبني. للأسف، اعتذرت السيدة منّي، لأنها كانت تُحضر الأقمشة من ورشة في كفرنبل… وبالتالي فالعمل متوقف بسبب قصف النظام على كفرنبل.
وبينما كانت تشرح لي المرأة عن الوضع… سمعنا صوتاً مرعباً، وكأنّ الطائرة الملعونة رمت حملها فوقنا!
دفعتُ بابني إلى مدخل منزل المرأة، وما كدت أدخل خلف الباب، حتى اجتاحنا ضغطٌ قوي، ثمّ صوت انفجار أكبر، رافقهُ صوت التكسير من المنازل المحيطة! الحجارة والشظايا تتساقط في كل مكان…
سحبتُ إبني من يده وخرجتُ أركض… خفتُ من قصف المنزل! وأي منزل، فالطريق أرحَم! كانت الرؤية صعبة… الغبار كثيف ورائحة البارود خانقة، والناس تركض في كل اتجاه. وأبواق السيارات لا تنقطع!
صراخ وعويل واستغاثة، حتى بدأ الغبار يتلاشى. رأيتُ منزلاً بالقرب من المدرسة قد صار ركاماً… عرفتُ أول هدف ضربته الطائرة! لكن لم أكن أعلم أنّ الطريق الذي هربت إليه، كان قد أُصيبَ بغارة أيضاً!
يا إلهي ماذا أرى؟
ها هو الرجل الذي كنتُ قد سألته عن منزل المرأة، أراهُ غارقاً بدمائه عند باب محله، وقد خشر إحدى قدميه! شابٌ مغطى بالدماء… وأشلاء هنا وهناك… الشظايا انتشرت وتطايرت في المكان، لتقتل وتدمّر!
سيارة زراعية تقتحم المكان مسرعةً، لنقل الجرحى… كادت أن تدهسنا! رأيت في صندوقها إمرأة مُصابة، زعى مقربة من السيارة رجلُ يصرخ.
كل هذا نتيجة غارتين ألقتهما الطائرة المعلونة… مجزرة فظيعة، ذهول ورعب وخوف…
إبني الذي كان يبكي ويصرخ بشدة… انهرتُ ولم أقم بتهدئته!
توقفت بقربي دراجة نارية، إنهُ زوجي! وكان يبحث عنا! اعتقد أننا متنا…
وصلنا إلى المنزل، وها نحنُ نسمع المسجد يتلو أسماء شهداء المجزرة! مجزرة راح ضحيتها مَن كانوا في الشارع يراقبون الطائرة التي تقصف كفرنبل، ومَن كانوا في منازلهم آمنين! شهيد تلو الآخر، أقفل عدّاد الموت ذلك اليوم على 12 شهيداً…
أذكر منهُم بحسرة: أحمد السلطان، وليد الإسماعيل، رامز حبابة، مصعب التلوج، دعاء التلوج وابنها مصطفى الرحال (4 سنوات)، الطفلة لمياء النابو لم تبلغ السنتين، أحمد عليوي وهو نازح من طيبة الإمام وآخرين غيرهم… ثمّ الشاب رئيف الإسماعيل، وجدوه تحت ركام بيته في وقت متأخّر من الليل.
لم أنم تلك الليلة، فقد كنتُ أنظر لنفسي ولولدي، كيف أننا خرجنا سالمين من تلك المجزرة!
كانت ليلة طويلة من التفكير… وفي الصباح استجمعت ما بقي من قواي، وقمتُ لأُحضّر الفطور كالعادة…
أنا لستُ امرأة قوية، ولكنّي أمٌ مسؤولة عن ثلاثة أطفال، يجب أن أتماسك أمامهم، مع أنّ في داخلي احتراق!
وأدركت أنّ ذلك اليوم كان بمثابة البداية الحقيقية، لفصولٍ سـأعيشها من مواجهة الموت واشتمام رائحة الدم… تعلّمت كيف عليّ أن أتماسك من أجل أبنائي، وكيف كان علي أن أحتضن إبني الذي كان يبكي، قبل أي شيء… وكيف أني واجهتُ الموت وأنا أبحث عن عمل… وكيف أنهُ يجب أن أستمر بالبحث عن عمل، من أجل أبنائي.
نور الهدى إدلبي (39 عاماً)، متزوجة منذُ 18 عاماً، وأم لثلاثة أولاد. حاصلة على شهادة البكالوريا – الفرع الأدبي.