أمي التي ماتت مرتين
امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.
" لم تجد آية سوى التمثيل منبراً تخاطب به العقول وتحكي قصص وأوجاع المعتقلات، وتكون صوتاً لهن عبر أعمال مسرحية تقدمها بنفسها وتحكي عن معاناتهن في المعتقلات"
كان الظلم في كل مرة يظهر في حياتها بوجه مختلف. عقب ولادتها وفي الأسابيع الأولى من عمرها توفيت والدتها، ولم تتعرف عليها أو تشم رائحتها. كانت الوصية التي حفظتها أختها كلمات أم تصارع الموت وهي تقول للأخت الكبرى: انتبهي لشقيقاتك.
بعد موت الوالدة وزواج الأب كان للظلم سياطه التي لا ترحم من يد والد لم يهتم لأمر بنات فقدن الأم وحنانها وعانين من بطشه. فما كان من أختها الكبرى إلا أن هربت بشقيقاتها إلى دمشق تاركة قريتها في ريف إدلب باحثة عن الأمان والحياة الكريمة.
كانت المعاناة والفقر لا يرحم في مدينة كبيرة. لم تكن تعرف أحداً فيها. واضطرت الأخت الكبرى للسكن في خيمة بسيطة. ولكنها تحملت وكابرت وعملت ليل نهار حتى تمكنت من تأمين منزل يحميها وعمل يؤمن لهن حياة كريمة خاصة بعد أن أتقنت مهنة الحلاقة النسائية.
كانت سنوات قاسية ولكن الأخت الكبرى لم تستسلم لليأس. وكانت سعادتها أنها أرسلت شقيقاتها للمدرسة التي حرمت هي منها، وأصبحت تملك سيارة خاصة بها وحياة قد تبدلت بعد سنوات الشقاء والتعب. آية هي الطفلة الصغيرة التي فتحت عينيها على وجه شقيقتها، وكانت تناديها: أمي. فهي لا تعرف أماً غيرها ولم تظن للحظة أنها الأم التي لم تلدها.
لم تواجه قساوة في طفولتها بسبب شقيقتها الكبرى التي كانت تسعى لتأمين كل ما يلزمها مع أخواتها. ولم تعرف لها بلداً غير دمشق التي عاشت على أنفاس ياسمينها. وتغيرت الأيام لم تتخيل آية أن تعيش الخوف والرعب، وأن يتبدل وجه دمشق وتطغى رائحة الموت على رائحة الياسمين.
لم تكن أعوامها الصغيرة تسمح لها بفهم ما يجري حولها وسبب انتشار الموت بهمجية. كان عام 2012 عام القهر والموت والرعب، حيث المظاهرات تحولت إلى مجازر، وكانت الصدمة التي هزت كيانها حين أصبحت الأم التي اعتادت عليها تخبرها بأنها شقيقتها الكبرى وأن الأم التي أنجبتها قد ماتت منذ نعومة أظفارها.
لم تع ما الذي دفع أختها لتخبرها بذلك حتى جاء اليوم وأصبحت به الأم الثانية معتقلة في السجون بسبب نشاطها الثوري. هل كانت تريدها أن تكبر وتتحمل صفعات الحياة بمفردها؟ كانت شقيقتها تنقل في سيارتها الأدوية، وتعمل على تهريبها لبعض المناطق في الغوطة حيث منع الدواء عنهم بهدف إجبارهم على التوقف عن المظاهرات ومقاومة النظام.
تم افتضاح أمرها واعتقلت على أحد حواجز النظام القريبة من الغوطة. وكانت قد اتفقت مع شقيقاتها على كلمة سر بينهن وأخبرتهن بضرورة مغادرتهن للبيت فور سماعهن لها. سمحوا لها أن تجري اتصالاً هاتفياً مع شقيقتها، وأبلغتها بكلمة السر.
اضطرت آية للعودة مع شقيقتيها إلى بلاد لم تألفها وهي إدلب. وإلى منزل لا يشبه منزلها فقد كان سجناً ربما يشبه سجن شقيقتها التي تحولت بنظر الأخ إلى وصمة عار على جبين الأسرة، بسبب الاعتقال وما يترتب عليه من أفعال مشينة ستتعرض لها على يد السجانين.
كان الظلم على يد أخ قرر سجنها مع شقيقتيها وحرمانهن من الحياة ثلاث سنوات قبل أن يصبح الهرب للمرة الثانية هو الحل الوحيد. غافلن الأخ وهربن من منزله ولكن هذه المرة إلى تركيا وبدون أمها الثانية التي توفت تحت التعذيب في المعتقل.
آية وجدت نفسها في بحر عذاب لا ينتهي، لم تكن تركيا تحمل رائحة الياسمين الذي أحبته. ولم يكن البيت الذي يؤويها مفعماً بأنفاس الأخت التي كانت أحن من الأم. كان على هذه الطفلة أن تكبر بسرعة وتتحول إلى إنسانة أخرى تحمل في قلبها قبور أحبابها، أم لم تعرفها وأم ربتها واستشهدت.
أصبحت آية تنتقل بين عدة أعمال في محلات تركية لبيع الألبسة لتحصل على لقمة عيشها. ولم تمنعها ظروف عملها القاسي من إكمال دراستها وحصولها على شهادة الثانوية العامة في تركيا. وأن تكون صوتاً لكل معتقلة في السجون يراها، مجتمع متخلّف وصمة عار للأسرة.
لم تجد آية سوى التمثيل منبراً تخاطب به العقول وتحكي قصص وأوجاع المعتقلات، وتكون صوتاً لهن عبر أعمال مسرحية تقدمها بنفسها وتحكي عن معاناتهن في المعتقلات وتنشر تلك الأعمال على موقع اليوتيوب.
آية اليوم في العشرين من عمرها التجأت لدورات الصحافة حتى تدخل في مجال الإعلام وتوصل رسالة المعتقلات لكل الناس وتؤكد لهم أن المعتقلة ضحية وليست مجرمة وأنها شرف وليست عار. آية اليوم هي صوت أختها الشهيدة وصوت عشرات المعتقلات اللواتي لا صوت لهن.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.