في المناطق المحررة مستقبل مجهول وخيارات محدودة

أصبح تفكيرها بمستقبل أبنائها، بمثابة هاجس يثقل كاهلها ليل نهار. هدى (40 عاماً) من معرة النعمان، حائزة على إجازة باللغة العربية، نزحت من منزلها أكثر من مرة خلال سنوات الثورة، وتركت عملها في التعليم، بسبب فصلها من قبل مديرية التربية التابعة للنظام. من جهتها أم حسن (45 عاماً) لا تعتقد أنها تمتلك وقتاً كافياً حتى للتفكير بمستقبل أولادها.
الحرب المستمرة، وقصف المدارس بالطائرات الحربية بالإضافة إلى تجنيد الأطفال في الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة في المناطق المحررة، يدفع معظم العائلات للهجرة خارج البلاد في سبيل البحث عن مستقبل أفضل لأولادهم، ومع إغلاق الحدود مع تركيا أصبحت الهجرة شبه مستحيلة.
تصر هدى على أهمية التعليم بالنسبة لأطفالها. وتقول كل شيء يجب أن ينتهي، إلا التعليم يجب أن يستمر. تتوقف هدى قليلاً عن الكلام وتنظر إلى السماء لتعود وتقول: “يجب علينا الكفاح من أجل مستقبل أطفالنا، ولكن مدارس النظام أقفل معظمها في المناطق المحررة، والمدارس التابعة للائتلاف لا يوجد فيها مستقبل جيد لمتابعة التعليم بعد الصف الثالث الثانوي”. 3 أبناء يشغلون فكر هذه الأم، فهل يوجد من يفكّر بمستقبل مئات الآلاف من الأطفال السوريين؟
مدير التربية الحرة في مدينة إدلب محمد جمال الشحود، يعتبر أن المستقبل هو للمدارس الحرة التابعة للائتلاف. ويقول الشحود: “لا يمكن أن نقول أن هناك مستقبلاً كبيراً في هذه المدارس ولكن نحن نسعى جاهدين لصنع هذا المستقبل، فهناك ثلاثة معاهد في مدينة إدلب موزعة في الريف تعنى بإعداد المدرسين، كما تم افتتاح جامعة في محافظة إدلب، تحتوي العديد من الأفرع العلمية والأدبية”.
ويضيف الشحود: “قطعنا شوطاً كبيراً في تحسين العملية التعليمة في محافظة إدلب، ولكن القصف المتواصل على المناطق المحررة وبالأخص المدارس، ولعل آخرها قصف طائرات النظام لمديرية الامتحانات يوم الجمعة 12 تموز/يوليو جعلنا نوقف عملية الامتحانات حرصاً على سلامة الطلاب. إن استمر القصف، أهم شيء يمكننا فعله هو أن لا ندع التعليم يموت”.
محمود رسلان (32 عاماً) خريج معهد هندسي ووالد لطفلين، يلفت إلى أن مدارس الائتلاف غير معترف بها دولياً، ومعظم مدارس إدلب يديرها جيش الفتح وهي تتعرض للقصف المتواصل من قبل طائرات النظام.

محمود رسلان يحاول أن يقنع نفسه بالتعليم في المناطق المحررة ولا يجد بديلاً آخر، ولكن ضعف التعليم في المناطق المحررة ليس أكبر مخاوف رسلان وهدى، حيث هناك ظاهرة تجنيد القاصرين في صفوف الفصائل الإسلامية مثل “حركة أحرار الشام” و”تنظيم جبهة النصرة المرتبط بتنظيم القاعدة”، بالإضافة لبعض الفصائل المحسوبة على الجيش الحر.
يعتقد رسلان أن هذه المشكلة تضاهي مشكلة التعليم، فهو يتخوف على مستقبل طفليه، فالتعليم وإن حصلا عليه لن يمنعهما من الالتحاق بهذه الفصائل، بسبب البيئة التي يعيشانها حالياً، من قتل ودمار وتشريد ونزوح، ومظاهر حمل السلاح التي باتت اعتيادية في الأسواق، ناهيك عن دعوات الجهاد في المساجد ودور التعليم الإسلامي التي انتشرت مؤخراً في المدينة.
هدى ترى في هذه الظاهرة “جريمة بحق الطفولة” فالطفل لم يخلق لجبهات القتال ورؤية الدماء، ويجب عليه متابعة تعليمه، وعيش حياته كطفل لا كمقاتل.
وعلى الرغم من دعوات بعض الأهالي لمنع تجنيد الأطفال في القتال، وانتشار حملات الناشطين عن ضرورة عدم تجنيدهم، ماتزال هذه الظاهرة قائمة، ولعل آخرها استشهاد قاصر يبلغ من العمر 16 عاماً من مدينة كفرنبل مع إحدى الفصائل التي تقاتل في ريف حلب الشمالي.
في سبيل البحث عن مستقبل أفضل للأطفال، قررت معظم العائلات في المناطق المحررة الهجرة إلى أوروبا. عائلة هدى لم تستطع الهجرة على الرغم من رغبة هدى في الهجرة، وكان زوجها يقف في وجه رغبتها مفضلاً عدم الهجرة “خوفاً من ضياع هوية أولاده الإسلامية، واكتسابهم أخلاق الغرب، الذي برأيه أنه مجتمع منفتح”. بحسب هدى التي لم تستطع معاندة زوجها، أو أن تهاجر وحدها، لأن الهجرة كانت لسبب واحد، هو البحث عن مستقبل أطفالها، حيث تعتقد أن الحرب ستطول ومع طولها سينعدم المستقبل، ويسوء الوضع أكثر فأكثر.
محمود الذي لا يجد أملاً في المدى القريب، كان له رغبة جارفة في الهجرة لتأمين مستقبل طفليه في الخارج، يقول: “كنت أرغب بالهجرة وحاولت كثيراً، لكن وضعي المادي المتواضع منعني من ذلك. كانت تكاليف الهجرة في البداية تقدر بـ 4 آلاف يورو أي ما يعادل خمسة ملايين ليرة سورية، وهو فوق قدرتي بكثير”. يصمت رسلان قليلاً ويتابع بتهكم: “عندما انخفضت تكاليف الهجرة، أغلقت الحدود التركية بشكل كامل، وأصبح الدخول حتى إلى تركيا ضرباً من المحال”.
هذه الأسباب بالإضافة إلى الخوف من الغرق في البحر، أو الوقوع فريسة تجار البشر، والمخاطرة في العبور إلى الحدود التركية، دفع العديد من العائلات لتغليب خيار البقاء في المناطق المحررة على رغم خطورتها على المجازفة بأرواح أطفالهم في رحلة الهجرة إلى أوروبا. ولعل البعض فضّل خياراً آخر بعيداً عن هذه الخيارات، شهم زعتور من مدينة كفرنبل (25 عاماً) طالب الآثار الذي ترك جامعته في مناطق النظام، قرر “عدم الزواج نهائياً، حتى لا ينجب أطفالاً ويتحمل مسؤولية ضياع مستقبلهم أمام عينيه”.