ولمن قضوا في الإنفجار قصصهم

كانت صيحات ليلى كافية لجذب الانتباه، كانت دموعها موحلة بفعل امتزاج الدمع بغبار المباني المهدمة. ليلى كانت تنوح بشدة على أحد ضحايا التفجير الذي استهدف مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية الواقعة شمال شرقي سوريا في 27 تموز/يوليو 2016، وأودى بحياة أكثر من 50 شخصاً وإصابة العشرات بجروح وصفت حالة بعضها بالحرجة.
وعلى الجانب نفسه من الرصيف جلس أبو ماهر مندهشاً من هول المشهد، مبنىً بأكمله غاص في الرمال، لم يبقَ من أدوراه الأربعة أي أثر يرتفع فوق الأرض، بأساساته وعفش شققه، والأفجع بساكنيه وأصحابه.
شاحنة كبيرة دخلت إلى وسط الشارع المؤدي إلى الهلالية بجانب جامع قاسمو، وتم التفجير. أسوأ كارثة حلّت بالمناطق الكردية حتى اليوم. تمتاز تلك المنطقة بكثافتها البشرية خاصة في ساعات الصباح الأولى، إضافة إلى تواجد أغلب هيئات الإدارة الذاتية في المنطقة المستهدفة.
شدة الانفجار بلغت مدينة نصيبين الحدودية مع قامشلي، حيث تحطم زجاج المباني والبيوت والمحال والواجهات الواقعة في محيط 500 متر مربع من مكان الانفجار.
هناك في أحد المنازل المهدمة، لم يبق سوى أواني فيها بقايا طعام يبدو أن أحداً لم يذق منه شيئاً. من مشهد ترتيب الطعام يمكن القول أنها كانت مأدبة متواضعة ولكنها كانت المأدبة الأخيرة. في الصورة الناقية لهذه الوليمة لا يظهر أفراد العائلة. تحولوا هم الوليمة في هذه الحرب. غيابهم عن الصورة أبلغ بكثير من حضورهم.
كانت صبيحة ذاك اليوم، الخطوة ما قبل الأخيرة للشاب العريس إبراهيم. خرج ليودع أخر أيام عزوبيته، وليتمم تجهيزات عرسه الذي كان من المقرر أن يكون يوم الجمعة. إبراهيم لم يودع العزوبية وحدها، إبراهيم ودع الحياة كلها قبل يومين من عرسه، أي قدر لعين حمله يوم الأربعاء. إبراهيم غادر خطيبته، لكنها تجد النكران وسيلة لها في رفض مغادرة حبيبها لها.
كانت إحدى الأمهات تنادي دون أن تدري إلى أين تسير وكيف تمشي وأين تقف. كانت تنادي الله والرسل تنادي الحشود والمتواجدين، تنادي البؤس والوجدان. هي والدة تبحث عن أبنائها. كانوا أربعة، لم تجد منزلها حيث كانوا. “يا لله أنقذ لي واحِداَ مِنهم” كانت تُناجي الله وكأن لسان حالها يقول: خُذ مِني ثلاثة هم أضاح لكَ، وأترك لي واحِداً كي يُصلي ويصوم لأجلك.
الطبيب كاسترو سليمان وأخته بلشين كانا تحت الأنقاض. إتصل بأهله وأخبرهم أنه على قيد الحياة، لكن ضعف الإمكانات وعدم وجود الفرق المختصة وبطء العمل، وعوامل أخرى حالت دون خروجه وأخته من تحت الأنقاض، فكان الاتصال الأخير بالعائلة ولكن لم يطل بقاء كاسترو وبلشين على قيد الحياة. فانضما إلى اللائحة الطويلة من ضحايا ذاك الأربعاء.

بحسب المسعفين الذين كانوا يعملون على رفع الأنقاض كانت هنوف عنز وابنتها هيلين عل قيد الحياة أيضا. كانتا تحت الأنقاض لأكثر من 18 ساعة، صعوبة عملية رفع الأنقاض ودقتها انتهت بوفاتهما
أبو رياض المسن، الذي أراد أن يُطعم أبنائه خُبزاً ساخناً مدعماً بالسمسم والعجين الأبيض. ذهب إلى فرن آخر، غير الفرن المعتاد في شارع عامودا. أبو رياض لا يزال يبحث عن بقايا منزله الذي لم يعد يعرف أين كان بابه، فلا الدار بقيت، ولا بقي ما حوله. وكل ما بقي لديه هو خبزه المتساقط من يديه مبللاً بالدمع.
هذه القصص ليست قصص جميع من قضوا، وإن تشابهت بحزنها ومأساويتها. لا يتساوى فقدان الأهل مع فقدان الأصدقاء مع فقدان الآخرين. عشرات الضحايا لكل منهم حكاية وموعد، لكل منهم من كان ينتظره ذاك النهار. كم من لقاء لم يحصل. الجرحى بعضهم ينتظر خروجه من المستشفى وهو يعي أن من كنوا معه قد قضوا. ومنهم لن يشفى من جراحه النفسية إن شفيت إصاباته الجسدية. لن يسعفهم النسيان سريعاً، النسيان لا يطلق صافرة إنذار.
أغلب الإحصائيات الرسمية سواء تلك التي أصدرها المجلس الوطني الكردي أو الهلال الأحمر الكردي، أو المشافي الخاصة والحكومية، أفادت بأن عدد الضحايا ناهز الـ 52 والجرحى 170 ولا يزال عدد كبير في عداد المفقودين.