ولدي والجمعة العظيمة

تجمّع الثوار بعد صلاة الجمعة في 22 نيسان/ابريل 2011، أمام مسجد أنس بن مالك، والذي يبعد
عن بيتنا حوالي 30 متراً. كان ولدي البكر رضوان واحداً من هؤلاء الثوار الذين خرجوا مطلقين شعارات: معاً نحو الحرية، قلب واحد، يد واحدة، هدف واحد. وغيرها من الشعارات.

تعالت هتافاتهم، وخرجت أنا مسرعة مع ولدي الصغير وابنتي إلى شرفة المنزل لنرى المظاهرة، ولعلّي ألمح ولدي بينهم. ولكن وللأسف لم نستطع رؤية أي شيء فقد خرجت المظاهرة من الطرف الآخر للجامع، ولم تمرّ من تحت بيتنا ولكننا بقينا واقفين وكانت هذه المظاهرة هي الأكبر منذ بداية الثورة.

وماهي إلّا دقائق حتى سمعنا صوت الرصاص يتعالى وصوت الشباب. نظرت من الشرفة وإذا بشاب يقول لرجل الأمن بعد أن توقف عن الهرب من أمامه: “خوّان”. فما كان منه إلّا أن سدد فوهة بندقيته إلى الشاب الذي ما إن رآه يسدّد بندقيته إليه حتى قام بفتح السترة التي كان يرتديها وقال له: “أطلق النار”.

نظرت، فإذا برجال الأمن يسدّون مداخل منطقة الشاميات بالكامل، حاملين الأسلحة. في هذه اللحظة صاح ولدي الصغير: “ماما، أخي رضوان”. بدأت أنظر إلى حيث أشار ولدي الصغير بحثا عن رضوان. وما إن وجدته حتى سمعت صوت الرصاص كصوت زخات المطر الشديد، ورأيت ولدي يتراجع إلى الخلف، وجهه وجسده باتجاه الجنود وخطواته إلى الوراء.
أذكر أنني صرخت حينها بأعلى صوتي: “رضوان، إصعد إلى المنزل. رضوان، رضوان”. لم يسمعني.
كيف أطلب منه أن يصعد إلى المنزل، هكذا سيعرض نفسه للخطر أكثر فصرت أصرخ: “رضوان أهرب. رضوان أهرب”. ولكن صوت الرصاص كان أعلى من صوتي بمئات المرات.

وهنا راودني شعور بأن ولدي هالك لا محالة. وأنهم كالعادة سيقولون لنا وللعالم أن العصابات المسلحة الارهابية هي التي قتلته. ركضت إلى الداخل لأحضر هاتفي الجوال وأصورهم وهم يطلقون الرصاص باتجاه ولدي. ولكن عندما عدت كان ولدي ومن كانوا معه قد اختفوا. حينها عجزت عن تمالك نفسي، فأخذت أبكي، وكأن شلالات تنهمر من عيني. من دون وعي كنت أسأل ولديّ عن أخيهما، وهما مذهولان، ويقولان: لا ندري، فجأة لم نعد نراه.

الشاب الذي كان معه أصيب بساقه وهرب. مؤكد أن رضوان نجا وسيعود إلي بسرعة، فهو يعرف مدى قلقي وخوفي عليه. يجب أن أبقى واقفة هنا لأفتح له الباب وهو يعود سالماً وأضمه إلى صدري. صوت الرصاص عاد بقوة كالسابق. يا إلهي، هل وجدوه ؟ هل استشهد ولدي؟

ولدي الصغير، كان في الثانية عشر من عمره، سحبني بقوة وأدخلني رغماً عني. كنت منهارة تماماً، أقفل باب الشرفة وأخفى المفتاح، قائلا “إذا شاهدوكِ وأطلقوا عليكِ النار هل هذا سيفيد أخي؟ أو سيعيده ؟”

رن جرس الهاتف، فأسرعت إليه وإذا بسلفي يقول: “الشاميات محاصرة ولا أحد يستطيع الدخول إليها أو الخروج منها”. أخبرته عمّا حصل فطلب مني أن أتصل بولدي وأخبره عن الحصار. أغلقت سماعة الهاتف وأنا مترددة أأتصل أم لا؟ فإن كان جواله ليس صامتاً وسمعه رجال الأمن فسيعرفون مكانه ويصبح عرضة للقتل او الاعتقال .

حلب : بستان القصر سيدة تصطحب أطفالها تسوق بعض الحاجيات. تصوير صلاح الأشقر

أمسكت الجوال وكدت أن أتصل، فإذا بالهاتف الأرضي يرن وإذا بسلفي يقول: “لقد تحدثت معه وهو بخير. اختبأ في المناهل، اتصلي به”. المناهل روضة في حي الشاميات تبعد عن بيتنا 10 أو 15 دقيقة سيراً على الأقدام.

اتصلت به. فتح الخط وقال فوراً: “ماما أنا بخير، لا تقلقي علي”. فلم أتمالك نفسي وبكيت من شدة الفرح. وأخذ يبكي هو أيضاً قائلاً: “لا تبكِ أمي، لا تبكِ. فقلت: “حسناً أمي، يجب أن ننهي المكالمة أخاف أن يسمعك أحد”. قال : “ماما لا داعي للبكاء”. قلت له: “حسناً، حسناً. أستودعك الله الذي لا تخيب ودائعه”. وأغلقت الجوال .

لم تكن روضة المناهل بناءً مستقلاً، بل كانت الطابق الأرضي من بناء سكني، لذا لم تكن آمنة بشكل كافٍ. قد يراه أو يسمعه أحد السكان ويخبر عنه. وما هي إلا ثوانٍ. فإذا الموبايل يرن واالمتصل هو رضوان إبني يقول: “أحببت أن أطمئن عليكِ. وأتأكد أنكِ قد توقفتِ عن البكاء”. قلت له: “اطمئن أنا بخير، وإياك أن تحاول الخروج قبل أن أطلب منك ذلك. فعندما أتأكد أنهم غادروا الحارة سأتصل بك. قال: “لا داعي للقلق. لن أخرج”.

حينها راودتني فكرة أن أنزل إلى المناهل لأحضر ولدي بنفسي. وسآخذ معي عباءة وغطاءً للوجه ليلبسهما، فإذا شاهدنا أحد ظن أننا امرأتان. وعزمت على النزول وفي داخلي خوف أُخفيه. هل سأعتقل قبل أن اصل إليه؟ لكن لم أستطع أن أفكر بحل أفضل حينها لأنقذ ولدي منهم. اتصل سلفي من جديد فأخبرته بقراري فقال: إياكِ أن تفعلي ذلك. يكفينا مانحن فيه. نكون بواحد نصبح باثنين.

ودخل وقت العصر، وإذا بالجوال يكسر الصمت الذي خيم على بيتي والشارع: “ماما، سيأتي رفيقي ليأخذني فاطمئني”. طلبت منه أن يتصل بي بمجرد أن يصل إلى بيت رفيقه. مرّ حوالي الساعتين ولم يتصل بي. اتصلت به فقال: “لم يأتِ صديقي. ولا أدري ما السبب”.

قبيل العشاء اتصل بي صديقه وقال: “رضوان عندي، وسيبقى حتى نتأكد أنه لم يبق أحد من عناصر الأمن في الشارع”. بقيت متوترة. وما إن دق جرس الباب حتى ركضت إليه، وبمجرّد أن لمحته، ارتمى عليّ، فأخذته بين ذراعيّ وضممته وقبّلته وأنا أكاد لا أصدق أن ولدي بين يديّ. والدنيا كلها تكاد لا تسعني من الفرحة . الحمد لله نجا ولدي بعد يوم عصيب. كان يوم بألف سنة. نجا رضوان يوم الجمعة العظيمة ليعتقل في يوم الأحد الواقع في 31 تموز/يوليو 2011، ويستشهد في يوم الجمعة في 24 آب/أغسطس 2012. ولاستشهاد رضوان حكاية، تدعو للفخر.

زهور الشام (42) مطلقة، لجأت مع ابنتها إلى لبنان حيث تعمل كمعلمة لمحو الأمية للسيدات واليافعين واليافعات وهو ما كان عملها في داريا في سوريا. أمّا ابنها الآخر فقد هاجر إلى ألمانيا حيث تم قبول طلب لجوئه.