رحلة العمر الذي انتهى

عمري 23 عاماً، أقطنُ مع عائلتي في منزلٍ صغير، عائلتي مكوَّنة من أم وأب وأخ وأختين. كانَ ذلك قبل أن يجتاحَ الحزنُ منزلنا، ويقضُّ مضاجعَ سعادتنا الصغيرة، التي كُنّا ننعمُ بها بعيداً عن أهوالِ الحرب.
في 23 نيسان/أبريل 2012، وبعد انطلاق الثّورة السّورية بسنة تقريباً، تعرَّضت والدتي لنكسة صحيّة فقدت على أثرها الوعي ليومين. وبعد معاينة الأطباء في المدينة، تبيَّن أنَّها مصابة بتليّف الكبد، ما يستوجب نقلها إلى العاصمة دمشق للعلاج.
لا يوجد أحد سواي لمرافقة والدتي إلى دمشق، فوالدي ضرير لا يرى، وأخي تخوّفنا من أن يكون مطلوباً لأحد الفروع الأمنية وهو ما يخساه جميع من يقطنون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأُختي صغيرة، ورغم صغر سنها فهي كان يجب أن تبقى لتهتم بوالدي.
أمضيتُ ووالدتي يومين على الطريق من كفرنبل إلى دمشق، رحلة شقاء وعذاب لا أنساها ما حييت، مليئة بالقهر والذل الذي لا يُحتمَل.
انطلقنا في 28 نيسان/أبريل 2012، وكان الطريق مُيسّراً. كانت وسيلة النقل عبارة عن باص للركاب، يجوب أكثر من منطقة وفي كل منطقة محطة ركاب، بعضهم ينزل وبعضهم يصعد. أذكر أنه وما إن بلغنا محافظة حماه، حتى بدأت تُعكِّرُنا بعض الحواجز العسكرية المنتشرة على أطراف المدينة. يطلبون بطاقاتنا الشخصية كوننا من مدينة كفرنبل، ومن المعروف أن مدينتي كانت من أوائل المدن في التظاهر السلمي الذي اجتاحَ سوريا احتجاجاً على نظام الأسد.
اقتربنا من مدينة حمص، وكان الخوف يعتري قلبي بسبب ما كنتُ أسمعه من عمليات خطف بين المؤيدين للنظام والمعارضين له. خفتُ أن يتم اختطافَنا على الطريق، فأمي مريضة لا تحتمل أي موقف صعب!
استمرت رحلتنا 5 ساعات إلى أن وصلنا إلى مدينة القطيفة الواقعة في ريف دمشق… حاجز عسكري كبير أمامنا! تسارعت دقاتُ قلبي، وكأنَّ شيئاً ما سيجصل لنا… وبالفعل، لحظات قليلة حتّى طلبَ أحدُهم بطاقاتنا الشخصية، وبعدَ دقائق قاموا بمناداتنا أنا وأُمي وطلبوا منّا النزول لمقابلة الضابط المتواجد داخل غرفة صغيرة بالقرب منَ الحاجز.
غادرت السيارة التي كانت تقلُنا إلى دمشق بطلبٍ من أحد عناصر الحاجز، فتوقعتُ حينَها أنَّ الضابط سيقوم بالتحقيق معنا ومن ثمَّ يعتقلنا!
دخلنا غرفة الضابط التي كانت تفوح منها رائحة بشعة جداً، ليتبيَّن لي أنها كانت رائحة مشروبات روحية، هذا ما لاحظته عند دخولي إلى الغرفة!
وابل منَ الأسئلة انهالَ علينا أنا وأُمي من الضابط، عن أسمائنا، عملنا، من أين أتينا، إلى أينَ سنذهب، وما علاقتنا بالإرهابيين. كانَ جوابي أنَّ مقصدنا من الذهاب إلى دمشق هوَ علاج والدتي المريضة، فضحكَ كثيراً عندما علم بأننا ذاهبتان إلى المشفى وقال لنا: “بحياتكما لن تصلا إلى هذا المشفى”.
بعدها حصلَ ما تخوَّفتُ منهُ، أدخلونا أنا وأٌمي إلى غرفة قريبة من الحاجز وقاموا بتوقيفنا لليلة واحدة.
لم أعرف في تلكَ الليلة طعمَ النوم، كانت ليلة طويلة وقاسية على أمي المريضة، فهي بحاجة إلى الدواء الذي قام الضابط بمصادرته… وكانت ليلة مليئة بالخوف بالنسبة لي، فأنا فتاة والجميع هنا رجال، بتُ أخشى من التعرُّض للتحرُّش.
مرَّت تلكَ الليلة وكأنها سنة كاملة… إلى أن بدأ ضوء الصباح بالتسلل إلى غرفة الإعتقال من جدرانها المتشققة، فأتى أحد العساكر وطلبَ منا القدوم معه إلى الضابط مرة أخرى. وبالفعل، ذهبنا معه إلى غرفة الضابط. والغرفة لم تتغير منذُ الأمس، فالكحول ما زالت موجودة على الطاولة.
أعادَ علينا الضابط ذات الأسئلة، وركَّزَ على “ما علاقتنا بالإرهابيين المتواجدين في مدينتنا؟ وما الذي يقومون به، وما التنظيمات التي ينتمون إليها”… وبعدَ أن تأكَّدَ أنَّ لا علاقة لنا بشيء أطلقَ سراحنا، لكن أمرَنا بالعودة إلى مدينتنا وعدم إكمال طريقنا نحو دمشق. وعدنا أدراجنا إلى كفرنبل.
فقدتُ والدتي في 15 آب/أغسطس 2012 بعد معاناتها مع المرض، وعدم تمكنها من تلقي العلاج في دمشق، بعد منعنا من إكمال رحلتنا ذاك اليوم. ويبدو أنها كانت رحلة العمر الذي انتهى.
صُعِقنا بموتِ أمي. أكثر من أصابه الصدمة وبشكل خاص كان والدي الكفيف، الذي كانت دليله في الطريق ونور عينيه بعد أن كان يُبصر من خلال أُمي كل شيء جميل… لكنَّ الحرب غلبَتنا وأضفت عتمة كبيرة على حياتنا!
ريم العيسى (23 عاما) من كفرنبل، متزوجة وأم لولدين. انقطعت عن متابعة دراستها الجامعية وكانت في السنة الأولى تخصص تاريخ، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية.