مصيبة قوم عند قوم فوائد!
نساء من مدينة زملكا يمشون على الطريق وتظهر الابنية مدمرة بشكل كامل
"ماذا حلَّ بزوجي يا ترى، هل اكتشفوا أمر انشقاقه أم أنّ الثوار قد أخذوه وقتلوه قبل أن يعرفوا أنهُ سينشق؟!"
بعد رحلة صعبة وطويلة للخروج من دمشق، وصلنا في 23 حزيران/يونيو 2012 إلى قريتنا الصغيرة ترملا، تلك القرية التي كانت ملاذاً للثوار والنازحين بسبب موقعها الجبلي، فهي تقع في سلسلة جبال شحشبو في ريف إدلب..
مكثنا في البيت الريفي. وكنت مع طفلَي الصغيرين زيد وعمرو ننتظر خبراً عن زوجي. فهو كان قد وعدني بالانشقاق عن النظام حالما تسنح له الفرصة. مضت أربعة أيام على قدومنا، ولم نعلم أي خبر عن زوجي. الاتصالات مقطوعة ونيران الخوف في قلبي لا تهدأ أبداً، وبحر من الأسئلة لا أمل بالإجابة عنها.
ماذا حلَّ بزوجي يا ترى، هل اكتشفوا أمر انشقاقه أم أنّ الثوار قد أخذوه وقتلوه قبل أن يعرفوا أنهُ سينشق؟!
تُرى كيف أعوّد الروح على تصحّر القلب، كيف الطريق لمعرفة أي خبر عنه؟! لا أحد يعلم ما في داخلي سوى والد زوجي البالغ من العمر قرابة السبعين عاماً. والدة زوجي كانت قد توفيت بحادث سير قبل الثورة بثلاث سنوات. كانت أُمّاً رائعة، ولكنّ مشيئة القدر أرادت أن تحرمنا من وجودها معنا في ظلّ هذه الأيام العصيبة.
منذُ وصولي إلى القرية، كنت كل يوم أصعد إلى سطح بيتنا ومعي هاتفي الصغير، أنتظر من زوجي رسالة يخبرني فيها عن حاله، إلى أين وصل وما الذي حلّ به… ولكن دون جدوى!
عند مغيب ذلك اليوم، يأتي خبر إلى القرية بأنّ عائلة “أبو محمد” وعائلة شقيقته وهما من قريتنا، قد تعرّضتا لحادث سير كبير في طريقهما من دمشق إلى إدلب… أودى الحادث بحياة أربعة أشخاص من العائلتين وأصاب مَن تبقّى بكسور وبتور.
وصل الخبر إلى زوجي في عمله، بأنّ عائلة صديقه تمكث في مشفى قارة، التي تبعد عن دمشق قرابة عشرين كيلومتراً… هذا ما جعل زوجي يتخذ من الأمر فرصة مناسبة للانشقاق!
فقد قدمّ طلباً إلى رئيس فرع الشرطة بإذن زيارتهم في المستشفى. منطقة قارة كانت تحت سيطرة النظام فلن يشك أحد بنيته الانشقاق. وكان يخطّط لأن يكون مرافقاً لموكب المتوفين بالحادث عند نقلهم إلى القرية، وبذلك يصل إلينا سالماً.
خرج زوجي بإجازة ساعية شفوية لا خطية، وقد مرَّ على الكثير من حواجز النظام كي يصل إلى المشفى.
وفي مساء يوم الخميس 24 حزيران/يونيو 2012، وصلت رسالة إلى هاتفي المحمول! التقطتُ الهاتف بسرعة البرق، وإذ بزوجي يخبرني أنه قد خرج من القابون بعد عناء وتوتر شديدين، وبأنه قد وصل إلى المشفى.
لكن قبل أن يتملك الفرح قلبي لسماع الخبر، أرفدني برسالة أُخرى، أنه وقع في مشكلة! فلا أحد في المشفى سوى المصابين وسيارة نقل الموتى قد غادرت قبل وصوله بنصف ساعة، فكيف سيصل إلى القرية وما الوسيلة؟ سيارة نقل الموتى لن توقفها الحواجز كون رجال العائلتين من المتطوعين في النظام، لم يستطع زوجي اقتناص الفرصة!
مضى أكثر من ساعتين على إجازته الساعية، ولم يستجدْ معه أي شيئ. أغلق هاتفه خشية اتصال أحد من الفرع به. اتصل بي من هاتف آخر وأخبرني بأنه قد علق في مكانه، فهو غير قادر على العودة ولا حتى إكمال الطريق إلى إدلب!
تجمّدتُ في مكاني وشعرت أني قد دخلت في غيبوبة وما عدت قادرة على التركيز. لكن على الفور أظهرت له أنّ الأمر طبيعيٌ، وبأنهُ يجب عليه ألا يُشعر مَن حوله بشيء، ووعدتهُ أني سأتصل فوراً بأحد سائقي الباصات في القرية المجاورة وأخبره بوضع زوجي عله يساعدنا ويأتي به.
شعر زوجي بالإحباط والخوف أكثر، وأجابني بأنّ السائق لن يقبل بذلك، فالأمر خطير للغاية! أجبتهُ: “لا عليك فالرجل الذي سيساعدنا شهم وسيأتي بك إلينا!” وبينما كنت أحدّثه بذلك، كانت نار الخوف تتأجج في داخلي وأسأل نفسي: “هل سأراه يا ترى، هل حقاً سيصل؟!”
ذهبتُ إلى سائق الباص في القرية المجاورة، برفقة أحد أخوته. أخبرْنا السائق بما حصل. طمأن قلوبنا ووعدنا بأنه سيحاول مساعدته والقدوم به إلى القرية.
حين عاود زوجي الاتصال بي أعلمتهُ أنهُ عليه الانتظار ليومٍ آخَر… قال: “كيف أنتظر والمشفى يتبع للنظام وقد يطلبون مني التعريف بهويتي؟ يبدو أني وقعتُ في مأزق!”
بدأتُ أبكي وعيون طفلاي الصغيرين لا تكاد تفارق المشهد مع عدم قدرتهما على فهم ما يجري. أما والد زوجي فما كان به إلا أن يُشعل سيجارة ويُطفئ أخرى…
للأسف، بعد انتظار دامَ ليومين كاملين، أخبرنا السائق أنه لم يتمكن من اصطحاب زوجي من دمشق، لكثرة تدقيق حواجز النظام!
مضى ثلاثة أيام على إجازته، ومن المستحيل أن يقبلوا له أي عذر إن فكرّ بالعودة الى فرعه… يا الهي ما الحل الآن؟!
تسنّدتُ إلى الجدار بأعصاب متلفة وجسد لا يقوى على حمل قشّة. دعوتُ الله ورجوته أن يسأعدنا…
وبينما كنتُ في ذلك الحال، خطرت إحدى صديقاتي في بالي وهي من قرية حاس. كان زوجها قد انشق عن النظام ووصل إلى قريتهم بسلام. اتصلت بها على الفور وأخبرتها بما حصل معنا، قالت: “لا عليكِ، اتركي الأمر لي وغداً سيكون زوجك في المنزل!”
بعدما رجوتها ألا يكون الأمر مجرد وعد! أكدت لي أنَّ السائق الذي ستتحدث معهُ يساعد كل شريف يفكّر بالانشقاق… زوجي لم يكن متفائلاً بالأمر، ومع ذلك…
في صباح اليوم التالي، عند السادسة صباحاً، أوفت صديقتي بالوعد وقدم السائق بزوجي. وصل زوجي إلى القرية.
مصيبة قوم عند قوم فوائدُ، فلولا الحادث الآليم الذي لحق بعائلة صديق زوجي، لما فكّر بأخذ الخطوة العملية الأولى نحو الانشقاق…
أم زيد (30 عاماً) من ريف إدلب، مدرِّسة لغة عربية. كانت تقيم في دمشق مع زوجها قبل انشقاقه عن النظام والعودة إلى بلدتها. لديها عدّة أعمال تطوعية أهمها التعليم.