فاصوليا حمراء!
من الطبيعي أن يشي الصباح بيومٍ آخر من أيام اللاإستقرار المعتادة. وأنا التي اعتدتُ الترحال، بدايةً من حمص إلى دمشق، وصولاً إلى ريف درعا… هرباً من صواريخ النظام.
كما زوجي الذي اضطرَّ لمغادرة دمشق في العام 2013، هرباً من آلة الإعتقال الأسدية المُمَنهجة )نسبة إلى عائلة الأسد الحاكمة)… تاركاً منزله وعمله ومكتبته، التي طالما أخذت حيّزاً من حديثه! وألمهُ على فقدانها، يوازي ألمَ الكسر في حوضه، بعدما أُصيبَ جرَّاء سقوط الجدار عليه، نتيجة برميل متفجر ألقته إحدى الطائرات.
صباح يكمل حديث الليل، عن إمكانية قصف المقر العسكري للجيش الحر، الذي يقع بالقرب من المنزل… تخوُّفٌ ملحوظ لزوجي الممدد على السرير الحديدي، وعندَ أسفل قدمه، عُلِّقَ كيس من الملح الصخري لتثبيت كسره.
طلب مني التهيؤ لمغادرة المنزل اليوم… لكني رفضت وأصرَّيت على أنه لن يحدث لنا إلا ما كتب الله لنا. ففي كل مرة نتخوَّف ونهرع من المروحية التي اعتادت على زيارتنا، واعتدنا وجودها في المنطقة بين الحين والآخر…
هذه المرة، صوت ميغ (طراز من الطائرات الحربية التي يملكها النظام الحاكم في دمشق) يهدر من بعيد… لكنني تغاضيتُ عن سماعها، فالخروج من المنزل صعب جداً، وزوجي بهذه الحالة.
كان يمكن أن يكون اليوم، يوماً عادياً، مع والدة زوجي ذات الأعوام الـ 75… التي فقدت أحد أبنائها في إحدى مظاهرات دمشق في العام 2012… ومع السيدة التي نسكن في منزلها، التي اعتادت أن تُحضِّر طعام الغذاء أثناء تناولنا وجبة الإفطار… وها هي تجهِّز الفاصوليا الخضراء وتنشرها في وسط المنزل، وقد جلبتها معها من دمشق.
كان يمكن أن يكون يوماً عادياً، وأخت زوجي، تحاول أن تعيد يوماً من أيامها في دمشق، في النوم إلى وقتٍ متأخر.
أنا في المطبخ، أقوم بتنظيف أدوات الفطور، محاولةً أن أُبعِدَ صوتَ الميغ وأصوات الجيران المتزايدة، عن الطائرة التي تقترب… أُحاول أن أُطيح بمخاوف زوجي، وأن أُخففَ توتري وقد رأيت أبناء الجيران قد بدأوا بالهرب إلى الحقول الفارغة!
لكني في هذه الأثناء فعلاً، اضطررتُ لاتخاذ القرار! يبدو أنَّ الأمر ليس كالمرات السابقة… هذه المرة طيارة ميغ وليست مروحية…
اتخذتُ القرار… ولم يعد يحتمل الوضع البقاء والتغاضي عن هدير الطائرة. سنغادر المنزل. لكن كان الطيَّار أسرع مني… ضغطَ على الزر!
دوَّى صفير الصاروخ، ليُطيح بكل أفكاري ومخاوفي… ويُطيح بزجاج المطبخ أمامي، لأُخفض رأسي وأهرع إلى زوجي… ها هو يقف على قدميه، متناسياً كسره!
خرجنا من المنزل جميعاً على عَجَل، خوفاً من أن يكون هناك صاروخ آخر.
وعلمنا في ما بعد، أنّ الغارة أصابت منزلاً مجاوراً للمقر العسكري للجيش الحر… لكنَّ صاحب المنزل كان قد خرج منهُ، قبل القصف الصاروخي بقليل.
مشينا في الحقول بحثاً عن مكان آمن، ولسنا وحدنا… كان حولنا جموع من الجيران، الذين تزايد صراخهم خلال بحثهم عن أقاربهم.
بدأت سيارات الإسعاف تتوالى بنقل الجرحى، ومن بينهم جارتي وهي إمرأة حامل بشهرها الأخير. قد أصابتها شظية في أسفل ظهرها!
صراخ ودماء ومنازل، لم يبقَ منها إلا الغبار المتناثر…
بالرغم من بطء خطا زوجي المتثاقلة بسبب الكسر، وخطوات والدته البطيئة، بسبب السن… إلا أننا استطعنا أن نبتعد قليلاً عن المكان… أنا وزوجي ووالدته وأخته، وصاحبة المنزل الذي نسكن فيه.
انتظرنا قليلاً تحتَ الأشجار حتى تذهب الميغ الثانية… ووجوه الناس ما تزال مليئة بالخوف والرعب والأطفال حفاة.
مشاهد لا يمكن أن أنساها…
بعدَ وقت، هدأ الضجيج. لكن لم يهدأ صوت صاحبة المنزل!
طلبت منا ترك المنزل، وإيجاد مكان آخر بعيداً عنها! ففي نظرها نحن السبب في جلب الطيران، بسبب بطاقة الأنترنت التي وضعناها على السطح! متناسيةً وجود مقر للجيش الحر بقرب منزلها.
وألحَّت بطلبها!
اضطررتُ للعودة وحدي إلى المنزل، لجمع الأغراض المهمة… وهناك، فككتُ قطتي التي كانت قد علقت بحبل! بدأت بالمواء وكأنها تلومني، وتقول لي: كيف تتركيني وحيدة؟
كنت عازمة على العودة لإنقاذها، لكن مع وقوع الصاروخ، حتى المُرضِعة قد تنسى رضيعها!
حين كنتُ أقوم بتوضيب الأمتعة، تعثَّرتُ بشيءٍ على الأرض… وإذ بالفاصوليا الخضراء التي كانت تجهِّزها صاحبة المنزل، وقد تناثرت في الغرفة… وتحوَّلَ لونها إلى أحمر، بسبب الدم المنساب من قدمي… فقدمي كانت تنزف ولم أكن اشعر بها!
كان ذلك في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2014.
حنان الطويل (30 عاماً) من حمص، مقيمة في ريف القنيطرة. متزوجة وليس لديها أولاد. درست معهد فني أشعة وترجمة، وعملت سابقاً في مركز تصوير أشعة.